فى مثل هذه الأيام من شهر المحرم من سنة 16 هجرية (636 ميلادية) توفيت السيدة مارية القبطية أم إبراهيم بن محمد صلى الله عليه وسلم، تعلم أنه فى سنة 20 هجرية (640م) تحرك عمرو بن العاص لفتح مصر بتوجيه من الخليفة عمر بن الخطاب، يقول «ابن كثير» فى «البداية والنهاية»: «لما وصل عمرو إلى مشارف البلاد دعا أشهر راهبين فى مصر للقائه وهما بومريم وأبومريام، فبرزا إليه فقال لهما عمرو بن العاص: أنتما راهبا هذه البلاد فاسمعا أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وأمره به وأمرنا به محمد صلى الله عليه وسلم، وأدى إلينا كل الذى أمر به ثم مضى وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية وبذلنا له المنعة وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم وأوصانا بكم حفاظاً لرحمنا منكم، وإن لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة ومما عهد إلينا أميرنا استوصوا بالقبطيين خيراً فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا بالقبطيين خيراً، لأن لهم رحماً وذمة»، تحدث عمرو بن العاص بلسان القائد الذى يجتهد فى تأليف قلوب مستمعيه بالإشارة إلى وصية النبى بهم، لأنهم «أهل ذمة ورحم».
مسألة الرحم مفهومة وهى ترتبط بالسيدة «مارية القبطية» المصرية النصرانية التى أنجب منها النبى صلى الله عليه وسلم ولده «إبراهيم»، أما مسألة «أهل ذمة» فتحتاج إلى قدر من التفكير والتساؤل: هل يحمل وصف «أهل ذمة» الذى نعت النبى صلى الله عليه وسلم الأقباط المصريين به إشارة نبوية إلى أن مسألة تغيير القبط لعقيدتهم ليست بالمسألة السهلة، وأنهم فى أغلب الظن سوف يخضعون للعرب، مع الاحتفاظ بعقيدتهم الأصيلة؟ دعنا نفصل القول فى البداية فى مسألة «أهل رحم»، يقول «ابن كثير» عن السيدة «مارية القبطية»: «مارية أم إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهداها صاحب إسكندرية وهو جريج بن مينا فى جملة تحف وهدايا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل ذلك منه، وكان قدوم هذه الهدية فى سنة ثمان فحملت مارية من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبراهيم فعاش عشرين شهراً ومات قبل أبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة سواء، وقد حزن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى عليه وقال: تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى ربنا إنا بك يا إبراهيم لمحزونون».
تعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم تزوج السيدة خديجة رضى الله عنها وعمره 25 عاماً وأنجب منها كل أولاده من الذكور والإناث، وقد توفى ولداه: «القاسم وعبدالله» وهما فى سن صغيرة، مات أولهما قبل البعثة، ومات ثانيهما بعد سنوات قليلة من البعثة، تزوج النبى صلى الله عليه وسلم عدة مرات بعد وفاة خديجة، ومن اللافت أنه لم ينجب من أى من زوجاته، بما فى ذلك عائشة رضى الله عنها التى تزوجها وهى فى سن صغيرة (9 سنوات)، وعندما أهدى صاحب الإسكندرية «مارية» إلى النبى (سنة 8 هجرية) كان عمره صلى الله عليه وسلم وقتذاك (60 عاماً)، يقول مؤرخو التراث إن النبى أعجب بمارية وكانت جميلة وذات ملاحة، فدعاها إلى الإسلام فاستجابت، فتسرى بها صلى الله عليه وسلم وأنجب منها ولده إبراهيم عام (8 هجرية)، وقد توفى «إبراهيم» قبل وفاة النبى بعام، وكان من الطبيعى أن يحزن النبى صلى الله عليه وسلم على وفاة ولده فقد أنجبه وهو فى سن متقدمة، وأحبه وأحب أمه حباً شديداً، وعلى قدر حبه له ولأمه كان مقدار حزنه عليه.