أخيراً انتهت لجنة الخمسين من وضع مسودة دستور مصر الجديد، صحيح أن النسخة السابقة الإخوانية للعام 2012 كان مطلوبا فقط تعديلها، إلا أن لجنة الخمسين انتهت إلى وضع دستور جديد بكل المقاييس من حيث الروح والشكل والمضمون. قد نختلف مع عبارة هنا أو مادة هناك، لكن يظل لدينا منتج دستورى جيد يليق بأن نقول له نعم، وجدير بأن يمر بنسبة توافق عالية تفوق 80%.
هذه الفرحة، فرحة إنجاز خطوة مهمة من خطوات خارطة الطريق، تلقى مسئولية كبرى على القوى السياسية المختلفة من حيث الانتباه والتركيز والفعل الناجز، خاصة ما يوصف بتحالف 30 يونيو الذى يتعرض الآن لاختبار عسير. والانتباه المطلوب هو لحجم التحدى المفترض مواجهته ليس فقط فى الشرح والتفسير لجموع المصريين بأهمية هذه الوثيقة ومدى ما تقدمه لمصر من فرص لتحقيق أهداف الثورة وتطلعات المصريين لغرض تحقيق الحشد الكبير المؤيد واللائق بهذه الوثيقة، بل أيضاً لمواجهة كل الأفعال الخرقاء واللامسئولة التى تقدم عليها قوى سياسية وحركات شبابية وحزبية تعيش حالة مراهقة بكل معنى الكلمة، والتى من شأنها أن تخلط الأوراق وتوتر الأجواء وتفسد أولويات الوطن الحقيقية وبالتالى تصب فى صالح جماعة الإرهاب والتخوين واللاوطنية والتى تشن بدورها حربا بلا هوادة على مصر وأمنها وجيشها وشعبها. ولا شك أن أبسط قواعد المواجهة هنا تكمن فى عدم الخضوع للابتزاز لذوى الصوت العالى، وعدم الانصياع إلى عمليات ضرب مؤسسات الوطن والتورط فى مواجهات عبثية مع الشرطة وهدم القانون تحت وهم أن هذه هى الثورة.
أما التركيز المطلوب من قوى تحالف 30 يونيو بعد عبور لحظة المراهقة السياسية الراهنة فيكمن فى الاستعداد لاستحقاقات ما بعد الاستفتاء على الدستور، وتحديدا الانتخابات البرلمانية، التى ستكون نتائجها شديدة الوطأة على الوطن ككل إن لم تفز هذه القوى بالنسبة العالية جدا من أعضاء البرلمان، وبحيث يصبح البرلمان المقبل برلمان الثورة بحق وبلا منغصات. وأبسط قواعد هذا الاستعداد هى التحالفات السياسية الفاعلة والبرنامج السياسى الطموح وبناء القواعد الشعبية فى كل المدن والقرى والنجوع والخروج من القاهرة والمدن الكبرى والوصول إلى البسطاء والشغيلة فى كل مكان. فالفرصة المتاحة الآن لبناء الظهير الشعبى والمجتمعى لقوى 30 يونيو هى الفرصة المثالية التى يصعب أن تتكرر مرة أخرى، والتى إن ضاعت فسوف يكون لضياعها الأثر المرعب على الوطن ككل، خاصة أن المتربصين بمصر والساعين فى خرابها كثر فى الداخل وفى الخارج على السواء. أما الفعل الناجز فهو باختصار الابتعاد عن السعى لتحقيق المصالح البسيطة والشخصية والجزئية لكل فئة أو حزب على حدة، على حساب الوطن. وإن تحققت هذه العناصر مجتمعة يصبح عبور ما تبقى من طريق صعب أمرا طبيعيا.
وفى تقديرى أن ما سلف قوله ليس بجديد على عقلاء هذه الأمة، ومع ذلك يمكن أن نرصد الكثير من الظواهر المنغصة التى تشى بل تؤكد أن القائمين على إدارة شئون الوطن سواء كانوا فى مناصب تنفيذية وحكومية أو قوى حزبية وسياسية، ومهما خرجت من أفواههم الكلمات الرنانة والعبارات الفخمة، فإنهم فى وادٍ وجموع المصريين فى وادٍ آخر، ومثل هذا الانفصام هو أحد أخطر الأمراض التى يمكن أن تطيح بكل المكاسب التى حققها المصريون فى السنوات الثلاث الماضية، وهو الثغرة التى تعمل القوى الظلامية والخائنة على توسيعها حتى تسقط الثورة والوطن معا. وطالما الأمر كذلك فإن بعضا من المراجعة الذكية كفيل بأن يغلق هذه الثغرة، ويعيد الترابط المجتمعى إلى ما يجب أن يكون عليه. ويقينا أن القادرين على المراجعة الذكية لا يتعالون على الواقع وعلى متطلبات المصريين الحقيقية. ومما يحزن فى هذا السياق أن يخرج علينا بعض من يعتبرون أنفسهم ممثلى الثورة ورموزها الحقيقيين بإهانة جموع المصريين ووصفهم بأنهم «حزب الكنبة» غير القادر على استيعاب متطلبات الثورة وضرورات الثورة الدائمة فى الشوارع والميادين، ناهيك عن الوصف بأنهم فلول نظام مبارك الساعين إلى هدم الثورة والثوار معا.
وبعيدا عن الاستعلاء غير المبرر فى مثل هذه المواقف الطفولية، فالتاريخ الذى نعيشه يثبت بأن المصريين الذين يصفهم البعض تأففا بأنهم «حزب الكنبة»، هم الجموع الكاسحة التى خرجت بدافع الوطنية الصرفة والخوف على البلاد وأمنها يوم 30 يونيو لكى يتخلص الوطن من وباء خطير اسمه جماعة الإخوان ذات التنظيم السرى والعمالة للخارج. وهم أنفسهم الذين حافظوا على البنية الأساسية لمصر بأسرها من مواصلات وإنترنت وشبكات كهرباء ومياه وإنتاج الخبز والطعام وتأمين المصانع، وأداروها بكل كفاءة فى الوقت الذى كان فيه الناشطون السياسيون يتظاهرون ويجوبون الشوارع متصورين أن الثورة تُختزل وحسب فى التظاهر والاحتجاج إلى ما لا نهاية.
إن استمرار مثل هذا الاستعلاء السخيف من بعض الناشطين وقوى سياسية ومثقفين يبالغون فى قيمة أنفسهم فى مواجهة الشعب يجسد حالة خواء سياسى وقدراً من اللاوطنية، ويدفع البلاد إلى كارثة كبرى. فالشعب هو الباقى وهو السند وهو الحامى للوطن بلا منازع. كذلك فإن اكتفاء قسم كبير من النخبة السياسية بالنضال عبر شاشات التلفاز وتغريدات الشبكات الاجتماعية التى لا تصل إلا لأصحابها ومتابعيهم، من شأنه إفساد الفرصة السانحة لتثبيت دعائم السياسات التنموية والحديثة فى ثنايا المجتمع، ومحاصرة القناعات البالية والتقليدية السائدة. فالثورة وشعاراتها ومهما كانت براقة وطموحة وبدون أن تتحول إلى قناعات شعبية وإلى علاقات وطيدة وعضوية بين النخبة السياسية والناس البسيطة، تصبح مجرد لغو لا فائدة منه. فالمصرى الطامح فى حياة كريمة لن تكفيه الكلمات المعسولة والتغريدات اللطيفة، إذ هو يريد من يدله على الفعل الصائب والعمل المنتج والتمسك بحب الوطن فعلا وليس قولا. وهى نتائج لا تأتى إلا بعلاقة عضوية بين النخبة الوطنية وجموع الناس.
نخبة مصر بحاجة إلى لحظة إفاقة، وإلى تغيير المسار وإلى الارتباط أكثر وأكثر بهموم المصريين وأولوياتهم فى الأمن وإعادة الانضباط فى الشارع وإلى القدوة فى تطبيق القانون والمثل فى الإنتاج وحماية البلاد وطرد العملاء، وبالقطع لا تتضمن هذه الأولويات الشعبية طموح قيادة إنقاذية فى الرئاسة ولا تشوق آخر إلى منصب تنفيذى أو برلمانى أو حكومى. فالأمانى الصغيرة لا تعنى إلا أصحابها الصغار، أما المصريون فطموحهم كبير بحجم مصر ورفعتها وتقدمها.