المقال عنوانه «أنا جزء من المقاومة داخل إدارة ترامب»، وقد نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» يوم 6 سبتمبر الحالى، لكاتب لم تذكر اسمه، مكتفية بالقول إنه أحد مسئولى الإدارة الأمريكية، وهو الأمر الذى أثار زوبعة ضخمة، ولعب دوراً مؤثراً فى زعزعة مكانة الرئيس، وإلقاء المزيد من الظلال القاتمة على ولايته ومستقبلها.
لقد انتفض ترامب بطبيعة الحال رافضاً المقال، وموجهاً أبشع الاتهامات لكاتبه وللصحيفة التى نشرته، معتبراً أن المقال حلقة من حلقات «الخيانة»، ومطالباً بنشر اسم الكاتب لكى تتم مساءلته، فضلاً عن اعتباره أن الممارسة الإعلامية التى أقدمت عليها الصحيفة ممارسة «فاشلة» و«جوفاء».
وراح أعضاء بارزون، سابقون وحاليون، فى الإدارة يتسابقون فى نفى صلتهم بالمقال، كما تنصلوا من الإفادات الواردة فيه، ولم يفت بعضهم بالطبع الطعن فى مهنية الصحيفة ونواياها.
ثمة جانبان رئيسيان لأى مقاربة منهجية لتلك الحادثة المهمة، أولهما يختص بالإطار السياسى الذى وقعت فيه، وثانيهما يتصل بالجانب المهنى المتعلق بإقدام الصحيفة على نشر مقالة من دون توقيع.
سياسياً، أتى نشر هذا المقال ضمن حملة منهجية منظمة تريد أن تنال من الرئيس ترامب، وأن تعمق وصفه بأنه «غير قادر على ممارسة مسئولياته»، وأن تزيد الشكوك فى أهليته للاستمرار فى منصبه.
ومن بين الإشارات بالغة الدلالة ضمن تلك الحملة أن نشر المقال جاء تزامناً مع نشر الصحيفة نفسها مقتطفات من كتاب «الخوف»، الذى كتبه الصحفى الشهير «بوب وودورد»، مفجّر فضيحة «ووتر جيت»، التى أطاحت الرئيس نيكسون من الرئاسة، فى سبعينات القرن الماضى.
ويلعب كتاب «الخوف» على الأوتار ذاتها بخصوص رئاسة ترامب، وينشر تصريحات لقادة من دون ذكر أسمائهم، تنتظم كلها فى سياق يُفضى إلى الاقتناع بأن ترامب «ليس جديراً بالاستمرار فى الحكم».
وتنضم تلك الإشارات بالضرورة إلى إشارات أخرى متواترة من أكثر من جهة تصب فى الاتجاه ذاته، وتتزامن مع طرح سياسى له أنصار بارزون، يقترح البدء فى خطوات دستورية نحو عزل ترامب.
فبموجب التعديل الـ25 للدستور الأمريكى، الذى تمت الموافقة عليه فى العام 1967، يجوز لنائب الرئيس وأغلبية من مسئولى الحكومة أو هيئة أخرى يوفرها «الكونجرس»، الإعلان كتابة أن الرئيس غير قادر على القيام بسلطات منصبه وواجباته، إلّا أن هذا التعديل لم يُستخدم مطلقاً لتنحية أى من الرؤساء الأمريكيين.
تأتى هذه الحملة المنهجية أيضاً فى مواكبة بعض المحاولات لاقتياد ترامب وعناصر مهمة من إدارته إلى المحاكمة، على خلفية اتهامات بالتواطؤ مع روسيا، لتعزيز تدخلها فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بالشكل الذى عزز فرص ترامب فى دحر منافسته هيلارى كلينتون، وهى اتهامات تبدو جدية جداً، وصالحة للبناء عليها فى إطار محاولات عزل الرئيس.
ثمة عنصر آخر لا يقل أهمية عما سبق، إذ يبدو أن ما نشرته الصحيفة منسوباً لأحد أعضاء إدارة ترامب، وهو أمر لم يشكك فيه أحد تشكيكاً جدياً، يشير إلى انشقاق خطير فى قواعد الحزب الجمهورى، وهو انشقاق يعبّر عن مخاطر فائقة، تفوق تلك الناجمة عن المنافسة مع الديمقراطيين، لأنها تأتى من معسكر الرئيس ذاته.
صحفياً، يثور السؤال المهم: «هل يحق لصحيفة أن تنشر مقالاً لكاتب من دون اسم؟»، «وهل تُعتبر تلك ممارسة مقبولة، أم أنها مخالفة مهنية وأخلاقية، تحول الصحيفة من وسيلة إعلام تخدم الحقيقة والجمهور إلى أداة فى معركة سياسية، تُستخدم فيها كسلاح غير مشروع؟».
من الزاوية السياسية، تبدو عناصر القصة مكتملة وواضحة، فقد أتى ترامب إلى السلطة من خارج نسقها التقليدى المعتاد، ولم يكن تبنِّى الحزب الجمهورى له عن اقتناع سياسى، بقدر ما كان خيار الأمر الواقع لحزب وجد نفسه فى منافسة غير متكافئة مع مرشح عتيد (هيلارى كلينتون)، ولا يمتلك زعيماً يمكنه أن يربح المعركة، فرأى استخدام ترامب فى هذه المنازلة كخيار تكتيكى، خصوصاً أن هذا الأخير نجح فى كسب تعاطف عشرات ملايين الأمريكيين وتأييدهم عبر أطروحاته الحادة والصادمة. وبالإضافة إلى ذلك، فقد قدم ترامب أداء درامياً صارخاً، وفّر فيه أسباباً بدت وجيهة للاعتقاد بأنه خيار خاطئ، وأنه يمكن أن يسبب خسائر فادحة للدولة ومؤسساتها، بصرف النظر عن تمتعه بدرجة من الدعم الشعبى، عبر بعض السياسات والإنجازات.
لكل هذه الأسباب، سيمكن تفهُّم دواعى تحالف مراكز قوى ونفوذ، فى أوساط الحزبين والدولة والمؤسسات والمجمع العسكرى- الصناعى، ضد الرئيس، وسيمكن أيضاً تفهُّم أن يكون الإعلام سلاحاً فعالاً ضمن تلك المعركة.
أما من الزاوية الصحفية، فلا يوجد ما يمنع صحيفة، فى فضاء إعلامى يتسم بالحرية، من نشر مقال من دون توقيع، أو بتوقيع رمزى يخفى اسم الكاتب الحقيقى.
فالصحفيون مطالبون بنشر الأخبار والإفادات، ومن بينها المقالات، منسوبة إلى مصادر واضحة معلنة «كلما أمكن»، لأنه فى بعض الحالات يضطر الصحفيون إلى حجب أسماء المصادر أو المُحاوَرين أو كتّاب المقالات، تفعيلاً لقاعدة «الإنصاف»، وهى القاعدة التى تحتم حماية المصادر، وتجنب أى أضرار غير موضوعية قد تلحق بهم جرّاء التواصل مع الإعلام.
بسبب قاعدة «الإنصاف» يُسمح للصحيفة بأن تحجب اسم الكاتب، لكن ثمة شروطاً لذلك، أولها أن يكون هناك خطر أكيد يهدد المصدر، وثانيها أن يتم التثبت من الإفادات من مصدر آخر، وثالثها أن تمكِّن الصحيفة الطرف الذى تستهدفه تلك الإفادات من الرد وتوضيح موقفه فى مساحة مناسبة.
بتطبيق هذه الاشتراطات على ممارسة «نيويورك تايمز» نجد أنها متوافرة، وهو أمر يعفى الصحيفة من المساءلة المهنية والأخلاقية بخصوص تلك الواقعة تحديداً، لكنه لا يعفيها من بعض الاتهامات التى تعتبرها جزءاً من المعركة السياسية ضد ترامب، وتصفها بالانحياز وعدم الموضوعية، وهو أمر لا تجد الصحيفة دفوعاً وجيهة لدحضه.
والشاهد.. أننا بصدد معركة سياسية وإعلامية، تتفاعل فى وسط سياسى واجتماعى يتمتع بقدر من الحرية والفاعلية، ويحتكم إلى الدستور والقانون بقدر الإمكان، وتتوازن فيه حظوظ وحقوق رئيس الدولة مع إحدى المؤسسات الصحفية، وهو أمر غريب علينا وعلى منطقتنا، وأمامنا وقت طويل لكى نشهد مثيلاً له.