رغم أننا دولة عريقة فى العمل النيابى، ومارسناه بمجلس شورى القوانين قبل سنين من وضع دستور 1923 الذى أسس برلماناً بمجلسين: النواب والشيوخ.. وعلى مدار سنوات طويلة مارسنا الأعمال البرلمانية على الواسع، كانت لنا نجاحات، وكانت هناك إخفاقات، ولم تخلُ مجالسنا النيابية من معارضة، قوية أو ضعيفة أو مستأنسة، ولكنها كانت موجودة إلا فيما ندر فى فترات محددة غابت فيها الديمقراطية كلها غياباً تاماً تبعاً للحكم الشمولى! وتعامُلُنَا مع ما تفرضه الدساتير المتعاقبة من حماية لأعضاء البرلمان، تعاملٌ قديم قِدم مجالسنا النيابية المتتالية عبر عشرات السنين. وهى حماية مقررة للعمل البرلمانى وليست تمييزاً للقائم به.. فالمساواة فى ذاتها مبدأ دستورى تعنو له الجباه، فإنْ تجاوزتها الممارسة ألزمها القانون والقضاء بالرجوع إليها.. المساواة فرع على العدالة، والعدالة لا تقوم بغير مساواة.. هذه المساواة ليست مساواة شكلية وإلا فقدت معناها وغايتها.
ولكن المصلحة العامة اقتضت تقرير حماية لبعض الأعمال قبل الأشخاص. اقتضت حماية للأعمال القضائية، واقتضت حماية للأعمال البرلمانية. هذه الحماية وإن انعكست على الشخص، إلا أنها مرتبطة بالعمل المقرر له الحماية.
الحماية أو الحصانة القضائية
ما يقع من القاضى خارج دائرة عمله يخضع للقواعد العامة، ولكن المصلحة العامة اقتضت أن تسبغ عليه حماية إلى أن ينجلى الموقف ويستبين الأمر.. ولذلك فإن هذه الحماية، التى يعبر عنها بالحصانة، تسقط إذا كان هناك حالة تلبس.. حالة التلبس تُفقد الحصانة علتها، لأنها قاطعة لا تحمل على الظن الذى يثير شبهة الاصطناع والتلفيق للإيذاء، ولأن مقتضياتها تفرض أيضاً التعامل العاجل معها قبل أن تتماحى الأدلة أو يجرى التلاعب فيها والعبث بها. وهذه الحصانة أو الحماية القضائية ليست إعفاءً من مبدأ المسئولية والمساءلة، وإلا كانت إخلالاً غير دستورى بمبدأ دستورى لا خلاف عليه. ولذلك فإن القانون أخضعها لإجراءات بيد المجلس الأعلى للقضاء، لا لمنع المسئولية، وإنما لتنظيم إجراءاتها، إما بالإذن بسماع أقوال، أو برفع الحصانة والخضوع للتحقيق والاستجواب، وللمحاكمة القانونية إنْ كان لها مقتضى.
الحماية أو الحصانة البرلمانية
على أن هذه الحماية تأخذ شكلاً آخر بالنسبة للبرلمانات، حالة كون الحماية على نوعين وليست صورة واحدة فى جميع الأحوال. تتمثل الحماية فى «حصانة» شبيهة بالحماية أو الحصانة المقررة للقضاء فى إطار رعاية المصلحة العامة للعمل القضائى. هذه الحماية البرلمانية فى شكل «الحصانة» تسبغ على ما عساه يصدر عن العضو البرلمانى خارج دائرة عمله البرلمانى، وتختلف عن النوع الآخر ومسمّاه الصحيح «المناعة البرلمانية».
الحصانة البرلمانية ليست مناعة
الحصانة البرلمانية ليست «مناعة برلمانية»، ومن ثم ليست إسقاطاً للمسئولية أو إعفاءً منها، وإلا كانت إخلالاً غير دستورى وغير مشروع بمبدأ دستورى لا يجوز الخروج عنه. وكل ما للبرلمان هو أن يراقب جدية الاتهام المنسوب للعضو، احتياطاً من أن يكون نكايةً للثأر من أدائه البرلمانى.. الغاية هنا هى حماية الأداء البرلمانى من أن يكون القائم به معرضاً للكيد والتلفيق، فهذا ينصرف فى النهاية إلى الأداء البرلمانى ذاته، ويخل بالثقة والاطمئنان الواجبين لعضو البرلمان فى نهوضه برسالته التى يعبر فيها عن الشعب كله..
ولذلك فإن ما يمارسه البرلمان فى هذا الإطار ليس حكماً فى موضوع الدعوى، ولا مصادرة على القضاء، وإنما هو محض «استيثاق» من جدية الاتهام، وانتفاء شبهة الكيد لأغراض أو مآرب شخصية. ولذلك يجب أن يقتصر دور البرلمان على مراقبة «الجدية» لا تقرير البراءة من الاتهام أو الإدانة فيه. فإذا خرجت الرقابة البرلمانية عن هذا الإطار، فإن هذا الخروج يكون إهداراً غير جائز للمشروعية!
الحصانة البرلمانية ليست، إذَن، «مناعة محصنة»، فلا هى تبيح الفعل، ولا هى تعفى من المسئولية أو العقاب، إنما هى محض سياج إجرائى مانع من اتخاذ الإجراءات الجنائية ما لم يأذن بها البرلمان. والقصد هو الاستيثاق من الجدية وانتفاء الكيد، ولذلك نصت الدساتير المتعاقبة، ومنها الدستور المصرى الحالى، على استثناء حالة التلبس من هذا السياج.
الفارق بين الحصانة والمناعة البرلمانية
هذه الحصانة المنظمة فقط لإجراءات مساءلة العضو البرلمانى ضماناً للجدية وانتفاء شبهة الكيد، تختلف عما يُعرف «بالمناعة البرلمانية»، سواء فى موضوعها، أو فى غايتها.
الحصانة سياج إجرائى للمساءلة عمّا عساه يصدر من العضو أو يقع فيه خارج نطاق عمله البرلمانى، ولذا فهى محكومة وموقوتة أيضاً. أما المناعة البرلمانية فهى مقررة لما يصدر من العضو تحت القبة فى أداء عمله البرلمانى.
ولذلك كانت الحصانة والمناعة مختلفتين أيضاً فى الغاية.
غاية «المناعة البرلمانية» حماية عضو البرلمان حماية دائمة وغير وقتية، وإسقاط للمسئولية، وليست مجرد «سياج إجرائى» منظم لإجراءات الدعوى الجنائية.
الحصانة سياج إجرائى تنظيمى.
والمناعة سياج مانع تماماً من المسئولية.
هذه المناعة منصوص عليها فى الدساتير المصرية المتعاقبة، ومقتضاها ألا يؤاخَذ أعضاء البرلمان عما يبدونه من أفكار فى أداء أعمالهم فى المجلس النيابى أو لجانه. فهى مناعة دائمة، وبمثابة إعفاء من تطبيق التشريع الجنائى تحمى العضو إبان عضويته، وتحميه أيضاً بعد زوال العضوية، ما دام موضوعها عمله البرلمانى تحت القبة، بعكس الحصانة فهى فضلاً عن كونها ليست إعفاءً للمسئولية أو إسقاطاً لها، فإنها تدور مع العضوية وجوداً وعدماً، فإن زالت العضوية سقطت الحصانة وأمكن مساءلة العضو إن لم تكن الدعوى الجنائية قد انقضت بالتقادم، أما المناعة فلا سقوط لها.
على أن هذه المناعة مقيدة، يشترط لها شرطان: الأول أن يكون ما صدر عن العضو قد وقع تحت قبة البرلمان أثناء القيام بأعمال العضوية. والثانى ألا يتردى الفعل فى دائرة التأثيم الجنائى أو السلوك الجانح عن قيم البرلمان وتقاليده، والذى لا يقتضيه الأداء البرلمانى.
عوقب «العيسوى» عن قتل أحمد ماهر، لأن القتل وإن جرى تحت القبة، فإنه من أجنبى عن العضوية وفى جريمة مؤثمة جنائيّاً.
ويُسأل العضو عما عساه يصدر عنه مخالفاً القيم والتقاليد البرلمانية، كمن يرفع الحذاء أو يضرب به آخر، أو يأتى بإشارات معيبة بذيئة، أو يعتدى على أحد اعتداءً جانحاً لا تبيحه تقاليد المجلس. فإذا نجا سلوك العضو من الإثم الجنائى ومن الإثم التأديبى، وكان المنسوب إليه محض أداء برلمانى تحت القبة، تمتع بمناعة تقيه المسئولية حال عضويته وبعد زوالها.
هذه الفروق يجب الإلمام بها، ولا يجوز تخطيها، بسحب المناعة على الحصانة، أو قلب الرقابة الاستيثاقية للاحتياط، إلى قرار بالبراءة أو الإدانة.