ورأيتك لأول مرة خيالاً صغيراً يتراقص على شاشة جهاز الأشعة لم أشعر إلا ويداى تحاولان اقتحامها لتمسك بأناملك الدقيقة وأنت تتراقصين وكأنك تحاولين الإفلات من أى غريب يقترب وتعيشين تحت سطح الماء وتتشبثين بأعماقى فابتسمت، وقلت (حلوة) وانتفض قلبى طرباً وسعادة، وبدأت فى عد الأيام والليالى فى انتظارك، وحتى لا أشعر بقلق الانتظار انشغلت جميع حواسى ومشاعرى فى جمع كل ما يقع تحت اسم (الجمال) لك وحدك، فاخترت خصلات شعر سندريلا ولون شجرة البندق له، وقوام ملكات الجمال ودلالهن، وكحلت عينيك باللون الأسود، وخديك بلون الورد الجورى، وعطرتك برائحة المسك والعنبر، وأضأت لياليك بضوء القمر، وطرزت ثيابك بنجوم الليل والسماء، وأعددت لك وشاحاً من الحرير الهندى، وطلبت من الملائكة أن تهبك خطوات ولفتات أميرات الأحلام الساحرات، وأخذت أبحث لك عن أجمل الأسماء، وسألتك هل تفضلين اسم أميرة أو ملكة أم أن تحملى بين حروف اسمك أجمل المعانى والمشاعر أو الزهور، فكان لك ما اخترت وهمست لى به، وبحثت عن معناه فوجدته (الهنا ده)، وفى ليلة من أجمل ليالى العمر وصلت إلينا، ودخل منزلنا كل الهنا، وأشار له الجميع مبتسمين ومرحبين.
ولأنى عشت طفولتى وصباى وأنا أستمع أمثال جدتى العجوز التى تطلقها فى كل مناسبة يعيشها منزلنا أو أى من منازل الأصدقاء، فقد كنت أبحث عن معنى كلماتها فى إعجاب وانبهار، وعندما دارت بنا الأيام أدركت أن تلك الأمثال الشعبية سجلت تاريخ مصر القديم، ودرست وحللت سلوك المصريين وعاداتهم وتقاليدهم على مر العصور، وأن أغلبها صحيح لا يكذب، وجئت أنت ليسقط أول مثل من أمثال جدتى الذى كان يقول (لما قالوا ده ولد اتشد ضهرى واتسند ولما قالوا دى بنية طربقوا البيت عليّا)، فقد جئت بالسعادة والفرح والزهو والفخر، فعرفت أن هذا المثل غير صحيح بالمرة، وكتبت لك أمى رحمها الله على هدية ميلادك (أنا جيت نورت البيت)، وقد جئت لتنيرى البيت والقلب والحياة بكل تفاصيلك الصغيرة الجميلة، بضحكتك وأحلامك ومشاعرك التى توزعينها علينا جميعاً، واهتمامك وانتظارك عودتنا يومياً وأسماء التدليل الذكية لكل منا، وإشارتك القلقة لتأخر أحدنا، وصورة الفرحة فى عينيك لمشاركتى أجمل لحظات حياتى، وقلقك المملوء بالحنان والحب فى لحظات ضعفى، دخلت حياتى وكنت أحاول أن أكون الأم الحنون فاكتشفت بعد عدة سنوات أننى أنجبت أماً ثانية لى ولكل من فى المنزل ولكل من أحببتهم فى حياتى، فقد شاركتنى الحب والعطاء لهم، فأنت قطعة من القلب وكل المشاعر، ووجدت أن جميع الأغانى التى أطلقوها للبنات تنطبق عليك، فأنت (حبيبة أمها) وأنت (ألطف الكائنات) وأيضاً (أمورتى الحلوة) و(إن أجمل ما فيكى يا بنت إن انتى فى عينيك ننى فيه حنان الأم)، وعندما أمسكت بيدك لأول مرة فى طريقك للمدرسة سمعت قلبى يغنى (يا بنت يا أم المريلة كحلى يا شمس هالة وطالة من الكولا) وجرت الأيام لأغنى لك (البنت الشلبية عيونها لوزية وبحبك من قلبى يا قلبى انت عينيا).
وعندما بحثت عما يقوله العلم والعلماء عن التشابه بيننا أسعدنى أن تؤكد الدراسات وآخرها دراسة أمريكية أجريت بجامعة كاليفورنيا، أن هناك جزءاً فى الإنسان يسمى (الجهاز النطاقى) وهو المسئول عن الوظائف الانفعالية والقدرات التعليمية ويلعب دوراً رئيسياً فى هذا الخصوص، إذ أظهرت الدراسة أن نسبة توريث الأم لهذا الجهاز إلى ابنتها هو أكبر من توريثه للابن أو من توريث الأب لها أيضاً، وأكدت الدراسة أن التشابه كبير فى تكوين الجهاز النطاقى من الأم والابنة على العكس من الابن والأم، وهو ما يعطى تفسيراً علمياً لتشابه الابنة مع أمها فى السلوكيات والتصرفات وأسلوب الحياة، وأسعدنى أن تكونى أنت صغيرتى وشبيهتى فى كل شىء بالعلم والحياة والأمثال الشعبية، فقد صدق من قال قبل تلك التجربة العلمية بمئات السنين إن (البنت لأمها).