يقرر «المقريزى» أن نقل الرأس إلى القاهرة تولى أمره «طلائع بن رزيك» المنعوت بالصالح، وكان قد قصد نقل الرأس الشريف إلى مصر، لما خاف عليه من الفرنج، وبنى جامعه خارج باب زويلة ليدفنه به، ويفوز بهذا الفخار، فغلبه أهل القصر على ذلك، وقالوا لا يكون ذلك إلا عندنا، فعمدوا إلى هذا المكان، وبنوه له ونقلوا الرخام إليه، وذلك فى خلافة الفائز على يد الصالح «طلائع»، وذلك سنة تسع وأربعين وخمسمائة. وبذلك يكون الرأس قد وصل إلى مصر فى الثامن من جمادى الآخرة سنة 548، وتم بناء المشهد الحسينى الحالى بالقاهرة عام 549هـ. كان من الطبيعى أن يسعى الحكم الشيعى الفاطمى إلى جلب الرأس الشريف إلى مصر، وكان من البديهى أن يُرحّب المصريون بالخطوة كل الترحيب. فمحبة أهل هذا البلد لأهل البيت معلومة بالضرورة.
ويخطئ البعض حين يتصور أن التشيّع فى مصر اقترن بحكم الفاطميين، فقد كان سابقاً عليهم. فمنذ فترة مبكرة من أحداث الفتنة الكبرى ظهر فى مصر فريقان: فريق انحاز إلى على بن أبى طالب أطلق عليه «العلوية»، وفريق انحاز إلى معاوية أطلق عليه «العثمانية». وطبقاً لما يذكره «المقريزى» فى خططه كان التشيع موجوداً فى مصر أيام الإخشيدية والكافورية -أى قبل دخول الفاطميين مصر- ويحكى فى هذا السياق أن «مصر لم تكن تخلو من الشيعة أيام الإخشيدية والكافورية فى يوم عاشوراء عند قبر أم كلثوم وقبر نفيسة، وكان السودان وكافور يتعصبون على الشيعة، وتتعلق السودان فى الطرقات بالناس ويقولون للناس من خالك، فإذا قال معاوية أكرموه، وإن سكت لقى المكروه وأخذت ثيابه وما معه». مصر كانت حاضرة بقوة فى كل الأحداث والمشاهد. فالثائرون ضد عثمان كان بينهم مصريون. ومحمد بن أبى بكر الصديق، أحد المتهمين بقتل عثمان، عُيّن والياً على مصر، ولقى حتفه بها على يد فريق من أنصار الأمويين. والمشهد الأخير فى تاريخ الدولة الأموية كان بمصر أيضاً، حين تم قتل آخر الخلفاء الأمويين «مروان بن محمد»، الملقب بـ«الحمار» فوق أرضها.
فى كل الأحوال يمكن القول إن الشيعة مثلوا أقلية فى مصر أيام الإخشيديين، لكن أوضاعهم اختلفت وتباينت خلال فترة الحكم الفاطمى التى امتدت إلى ما يزيد على قرنين من الزمان، وخلال هذه الفترة ترسّخت الاحتفالات بذكرى موالد آل البيت، وذكرى استشهاد الحسين يوم عاشوراء، وانضم إلى هذه الاحتفالات بعد وصول الرأس الشريف لسبط النبى، الاحتفال بيوم وصوله. ومن عجب أنك تجد أن بعض الطقوس التى كانت تشهدها مصر فى هذه الاحتفاليات أيام الفاطميين ما زالت شاخصة وماثلة فى الواقع حتى يوم الناس هذا، فكانت تُدق الخيام، ويمتد سماط الطعام داخل كل خيمة لإطعام المحتفلين، أو الذين أتوا للتبرك بالشهيد صاحب الذكرى. يكفى أن نستشهد فى هذا السياق بخبز الشعير الذى كان، ولم يزل، وجبة أساسية من الوجبات التى تقدّم فى «خدمات» الاحتفال بموالد أهل بيت النبى، صلى الله عليه وسلم. المصرى فى كل مراحل تاريخه لا يتخلى عن طقوسه وتقاليده.