يرى قطاع مهم من الأمريكيين اليوم، دونالد ترامب وحقبته الرئاسية بمثابة كابوس ثقيل، ينتظرون الإفاقة منه، والخروج من براثن تفاصيله بأقل الخسائر الممكنة، المثير الآن أن تلك الكتلة الكبيرة نسبياً تتنامى بمرور الوقت، وتحاول فيما بينها أن تصل لتراكم فى التأثير يستهدف الوصول، إلى حرمان الرئيس الأمريكى من إكمال مدته الرئاسية، أو فى أقل تقدير عدم تمكنه من الترشح لفترة ثانية، على الجانب المقابل؛ هناك خليط ربما أقل تجانساً، وغير محدد الملامح، لا يعير تلك الحملة صاحبة الصوت العالى الاهتمام الكبير، ويضعونها فى خانة المشاكسات السياسية الخشنة، حيث يركنون إلى فرضية آمنة تستبعد وصول الأحداث إلى محطة الإطاحة بالرئيس.
هذا المكون الأخير الذى يمثل «الحزب الجمهورى» موضع القلب منه بالمنطق، رغم أن الشرائح الجمهورية التى عبرت إلى الجانب الآخر من تأييد الرئيس، تزداد يومياً على خلفية الأحداث التى تشهدها واشنطن فى الآونة الأخيرة، هؤلاء ربما ستكون انتخابات التجديد النصفى للكونجرس نوفمبر المقبل هى المحك الرئيسى لهم، الذى سيكشف عن ملامحهم الحقيقية بعد عامين من حكم ترامب، ووزنهم النسبى القادر على صياغة موقف سياسى.
الكتلة المعارضة، التى يمثل قوامها الرئيسى الديمقراطيون، رغم الضغط الهائل المفروض عليهم أمام ذات الاختبار الانتخابى، إلا أنهم يشحذون كافة أسلحة التأثير الأخرى لتغذية قدرتهم على إحداث التغيير، عبر انتخابات الكونجرس أو بغيرها من أسلحة النفاذ لعقل وقلب المواطن الأمريكى، من تلك الأسلحة المشرعة؛ تقدمت وسائل الإعلام الرئيسية لتخوض غمار هذه المعركة، ومن أشهر النماذج مما تزخر به المطبوعات الشهيرة ومواقع التأثير الإلكترونى، جاءت مقالة تحليلية نشرتها مجلة (Foreign Policy) ذائعة الصيت، وصاحبة المكانة المؤثرة فى مجتمع السياسيين والباحثين ذوى الاختصاص، بعنوان لافت يشير إلى المحتوى بوضوح «التخطيط لحطام ما بعد ترامب»، بالإنجليزية (Planning for the Post-Trump Wreckage)، بدأه الكاتب «ستيفن والت» بافتتاحية تلخص رسالته؛ حيث يرى أن «الطريقة المتعجرفة والفاسدة، والمزاجية التى يتعامل بها الرئيس ترامب مع السياسة الخارجية، أدت إلى حدوث العديد من العواقب المؤسفة، من بينها تثبيط التفكير الحصيف بشأن جدول الأعمال العالمى، الأسوأ من ذلك، أن طريقة تعامله مع السياسة الخارجية تقوض بصورة تدريجية من القدرة المؤسساتية التى ستحتاجها الولايات المتحدة للتعامل مع قضايا العالم»، ثم أعطى توصيفاً للأشخاص الأكثر قلقاً بشأن تصرفات ترامب، باعتبارهم يقضون جزءاً كبيراً من وقتهم، لتقليل الضرر الذى تسبب فيه ترامب وأتباعه أثناء فترة حكمهم، مثل الأبوين اللذين يحاولان بشكل محموم السيطرة على طفل هائج، يعيث فساداً فى محل خزف: كل الاهتمام منصب على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأوانى الفخارية، ولا يملك أحد الوقت للتفكير، بشأن ما سيفعلونه بمجرد انتهاء الطفل من تحطيم تلك الأشياء.
يحفل المقال برؤى وتعبيرات، ربما تظهر للمرة الأولى على صفحات المجلة الرصينة، لكنها مثيرة للانتباه ولاحتشاد القراء، حيث يؤكد أن الأمريكيين باتوا محصورين فى وضعية رد الفعل، ويصف ساخراً عبقرية ترامب، بأنها تتمثل فى قدرته على جعل كل شىء يدور حول شخصه، وعلى تركيز الاهتمام على تصرفاته الشنيعة، بهذه الألفاظ وتلك التوصيفات تذهب (Foreign Policy)، للب ما تدعو إليه، من ضرورة مقاومة البقاء فى موقف دفاعى تجاه ترامب، معلنة أن الوقت قد حان كى يبدأ خبراء السياسة الخارجية التفكير بشأن عالم ما بعد ترامب، للتوصل إلى ترتيبات جديدة مناسبة للظروف التى ستواجهها الولايات المتحدة فى المستقبل.
بعد تلك الدعوة المثيرة، يتناول المقال العناوين التى يصفها بالأولويات الأكثر إلحاحاً فى هذا المستقبل، وهى تأتى بالترتيب؛ أولاً هيكل سياسات القوى العظمى، ويضع فيها موسكو وبكين كقوتين تحتاجان لدراسة معمقة عن كيفية مواجهتهما فى وضعهما الراهن، وفى المستقبل، ويطرح تساؤلاً مركباً لافتاً، هل ينبغى بذل جهد مركز لدق «إسفين» بين موسكو وبكين، وأين سيكون موقع بلدان مثل الهند وسط تلك القوى العظمى، وما الموقع الذى ترغب الولايات المتحدة أن تكون الهند فيه؟ ويصف تلك الأهداف بالقصيرة المدى القائمة على رد الفعل، لكنها لا تلغى الحاجة إلى التفكير جدياً، بشأن الشكل الذى يجب أن تكون عليه علاقات القوى العظمى فى العقود المقبلة.
الأمر فى إجماله شحن لذهنية القارئ الأمريكى، فهو يدق بإلحاح على قضايا المستقبل ويستثير هواجسه، من خلال طرح ما هو لازم الإعداد له وما يجب التساؤل بشأنه، فتأتى العناوين التالية، التى تؤكد على أهمية أن تضمن وتؤمن الولايات المتحدة فضاء إلكترونياً «جديد وشجاع»، وأن تلتفت لاستحداث مؤسسات جديدة للاقتصاد العالمى، باعتبار أن العولمة الحديثة لم تحقق نتائج إيجابية لملايين الناس كما كان متوقعاً، رغم أنها حققت فوائد مهمة للطبقة المتوسطة فى آسيا، والنخبة التى تمثل واحداً بالمائة من العالم.
ما خصه المقال بوجوب التساؤل بشأنه، وهذا مما نتفق مع الكاتب فيه، «أين يتجه الشرق الأوسط؟»، حيث يصف سياسات القوى العظمى بأنها تحتاج إلى دبلوماسية مبدعة، لأن الوضع المضطرب يتطلب جهداً مضاعفاً، فالمنطقة معبأة بالأسئلة بحسب المقال، الأكثر أهمية فيما طرحه هو مستقبل القضية الفلسطينية، حيث وضع أمام القارئ الأمريكى تلك الحزمة: لو كان «حل الدولتين» مستحيلاً، فما الحل الذى تدعمه الولايات المتحدة؟ هل تؤمن بأن تصبح إسرائيل دولة واحدة ديمقراطية، تمنح حقوقاً سياسية كاملة لسكانها، بمن فيهم الفلسطينيون الخاضعون الآن لسيطرة صارمة، والمحرومون من حقوقهم السياسية؟ هل يؤمن الأمريكيون بأنه ينبغى إبقاء الفلسطينيين فى حالة استعباد دائمة (تمييز عنصرى)؟ هل تؤيد الولايات المتحدة طرد إسرائيل لهؤلاء الفلسطينيين إلى دولة أخرى؟ لا يرغب أحد حقاً فى التفكير فى هذه الأسئلة المحرجة، لكن خلفاء ترامب سيواجهون تلك الأسئلة، ولعل من المستحسن البدء الآن فى صياغة رد عليها.