يلاحظ أن من يقرأ حياة المهاتما غاندى، وأحداث الحرب التى اندلعت فى شبه القارة الهندية بين الهندوس والمسلمين فى أربعينات القرن الماضى، وما أدت إليه من صراعات دامية ضاعت فيها أرواح، وأهلكت ثروات هى فى الواقع للهند كلها، وأدت إلى اغتيال المهاتما غاندى الذى كان يقاوم التعصب، وينهى عنه، ويأمل بسياسته الحكيمة أن يحفظ للأجناس والطوائف قدراً من الوحدة تحفظ لهم قوتهم ولا تشتتهم فيما يجرى من صراعات غلبها التعصب كل لهويته وفئته.. بيد أن الإغراق فى التعصب للهوية، ما بين كل هذه الأجناس المتعددة فى شبه القارة الهندية، والذى طغى -أى هذا الإغراق فى التعصب- على أمل غاندى فى أن يجمعهم الانتماء للهند، حال بين المهاتما وبين تحقيق مراده وأمله، ودفع فى النهاية حياته ثمناً لسعيه، وجاءت قمة المأساة أن الذى قتله كان من الهندوس الذين ينتمى إليهم غاندى، أعماه التعصب ومن وراءه، فظنوا بالرجل الظنون، واغتالوه لأنهم لا تروق لهم سياسته لحفظ التوازن، والعدالة أيضاً، بين الهندوس وبين المسلمين الذين تعرضوا لمظالم شديدة وموجات من العنف بهم إلى حد القتل والتهجير القسرى، ولم يرضوا بتعصبهم الضرير أن يستهجن، وهو الهندوسى، ذبح المسلمين والتشنيع بنسائهم وأطفالهم!
الانحصار فى الهوية المتفردة!
كان وراء هذه المأساة الانحصار فى وهم «الهوية المتفردة» التى لا تقبل تعدداً ولا مشاركة.
فاقَم من المشكلة تعدد القوميات والعناصر واللغات والعقائد والمعالم الجغرافية فى الهند، وتألفها من عناصر شتى، ومذاهب شتى، ولغات شتى، ومصالح شتى، ومواقع جغرافية شتى.
ليس من اليسير أمام هذا التعدد الحديث عن «روح الأمة» إذا ما انحصر كلٌّ من هؤلاء فى «هويته الفرعية أو النوعية».
والواقع أنه لا توجد للشخص الواحد هوية «وحيدة» أو«منفردة» أو«متفردة».
هويات الشخص تتعدد حسب انتماءاته العرقية والطائفية والحزبية والمذهبية والإقليمية أو المحلية.
كما تتعدد هذه الهويات بتنوع ثقافة الشخص ومعارفه، وبنوع عمله ونشاطه، بل تتعدد أيضاً تبعاً لما يحبه أو يكرهه أو يأباه فى الرياضة مثلاً أو فى الطعام الحيوانى أو النباتى.
الأمريكى مثلاً قد يكون أمريكياً بالميلاد أو بالتجنس، وقد يكون منحدراً من أصل أوروبى أو كاريبى أو أفريقى، ثم هو قد يكون يهودياً أو مسيحياً أو مسلماً أو ملحداً، امرأة كان أو رجلاً، شاباً أو كهلاً أو شيخاً، ليبرالياً أو محافظاً، حراً أو موظفاً، مؤرخاً أو معلماً، أو روائياً أو عاملاً.. رياضياً أو غير رياضى، طبيعياً أو مثلياً، محباً أو مبغضاً لهذا النشاط أو ذاك.
فالهويات الإنسانية متعددة بكل هذه التنوعات.
توجد الهويات العرقية، والجنسية، والثقافية، والحزبية، والأممية، والوطنية، والقبلية أو الأسرية، والمجتمعية، والمذهبية، والسياسية، والرياضية، والمهنية، والنقابية، والوظيفية، والدينيّة أو الملليّة، واللغوية، والسلوكية، والمعرفيّة، والطبقيّة المالية أو الاجتماعية، وغير ذلك من الهويات التى تتنوع بلا عدد.
من أين ينشأ التعصب؟!
لو وزع الإنسان عواطفه، ولو بنسب متفاوتة، بين هوياته المتنوعة لأمِنَ شر التعصب الجامح المقيت. فالتعصب لا ينشأ إلا إذا سلخ الإنسان نفسه عن هوياته المتعددة، ليحصرها فى هوية واحدة وحيدة متفردة، فينمو بالوعى وباللاوعى تعمق إحساسه بهذه الهوية التى يظن أو يعتقد أنها «الوحيدة» «الفريدة» ظناً غالباً ما يقترن بوصفها أو افتراض أنها مقاتلة متعين عليها أن تواجه وتناهض الهويات الأخرى المقابلة لها.. وهو ما يقف سبباً وراء إثارة المواجهات الطائفية!
فالعالم كثيراً ما يؤخذ على أنه مجموعة من الأديان، أو من الحضارات، أو من الثقافات، مع تجاهل الهويات الأخرى التى يتمتع بها الناس ويقدرونها، والتى تتعلق بالطبقة، والنوع، والمهنة، واللغة، والعلم والأخلاق، والسياسات.
ينبغى علينا أن نرى بوضوح أن لنا أو لكل منا انتماءات كثيرة منفصلة، وأن هذه الانتماءات يمكن أن تتفاعل بعضها مع بعض بطرق كثيرة مختلفة، وإغفال حقيقة هذا «التعدد» لانتماءاتنا، وحاجتنا من ثم إلى التفكير والاختيار، هو الذى يجعل عالمنا مبهماً غامضاً مليئاً بالتعصبات، ويدفعنا فى اتجاه المنظور المرعب الذى مثله الشاعر والناقد الإنجليزى ماثيو أرنولد (1822/1888) فى قصيدة شاطئ دوفر Dover Beach، التى قال مما قاله فيها:
«وها نحن هنا والظلام مدلهم ينبسط حولنا
وقد ساقتنا إنذارات مشوهة بالصراع والفرار
إلى حيث جيوش جاهلة تتصارع فى ظلام الليل
إننا قادرون على أن نفعل ما هو أفضل من ذلك».
غذاء النزاعات والأعمال الوحشية
كثيرٌ من النزاعات والأعمال الوحشية فى العالم يتغذى على «هوية متفردة» لا اختيار فيها، وبناء الكراهية يأخذ فى هذه الحالة شكل إثارة قوى سحرية لِهُويّة مزعومة السيادة والهيمنة تحجب كل الانتماءات الأخرى.
والحقيقة أن من أهم مصادر الصراعات الكامنة فى العالم المعاصر الزعم بأن الناس يمكن تصنيفهم تصنيفاً متفرداً مؤسساً على الدين والثقافة. وهذه النظرة التقسيمية بشكل متفرد ليست فقط ضد الاعتقاد قديم العهد بأن كل الكائنات البشرية متماثلة كثيراً، لكنها أيضاً ضد الفهم الذى قلما يناقش مع أنه أكثر قبولاً بأننا (برغم وحدة هوية ما) مختلفون بدرجات متنوعة، وأنه من الخطأ أو من غير الواقعى أن يؤخذ العالم، والأفراد بالتالى، على أنه مجموعة من الأديان أو من الحضارات أو الثقافات، مع تجاهل الهويات الأخرى التى يتمتع بها الناس ويقدرونها، والتى تتعلق بالطبقة، والنوع، والمهنة، واللغة، والعلم، والأخلاق، والسياسات. فالتقسيم المحورى المتفرد هو الأكثر قابلية لإثارة المواجهات، عن عالم التصنيفات المتعددة والمتنوعة التى يتشكل منها العالم الذى نعيش فيه.
نعرف مما نرى، أن التعصب محال أن يصيب ذوى البصيرة واتساع الأفق، الفاهمين لحقيقة الحياة، وسنن الكون، القائم على التعايش والتساند والتكافل، والتدافع أيضاً، هذا التدافع لا خطر فيه أو منه لو اقترن بالفهم واتساع الأفق.
التعصب على رأس الأمراض التى تعانى منها البشرية فى زماننا!!