حدّثتك قبل بضعة أيام عن كتاب «ومن النفاق ما قتل» لمؤرخ الصحافة الراحل «إبراهيم عبده». واستطراداً للحديث حول هذا الموضوع، نتناول اليوم بُعداً أظنه مهماً، من أبعاد لعبة النفاق، وهو بعد «الفن». عرف المشهد الإعلامى المصرى فنوناً وضروباً مختلفة من النفاق منذ السنوات الأولى لمعرفة مصر للصحافة، كما ظهرت أشكال وأنواع متعدّدة من المنافقين. قبل ثورة 1952 كان هناك من ينافق حكام أسرة محمد على ويُدبج فيهم قصائد المديح، وبعد الثورة انبرت هذه الأقلام لكشف عورات الأسرة المالكة، واجتهدت فى إلصاق كل نقيصة بها، نفاقاً لحكام العصر الجديد.
عرفت الصحافة المصرية فى الستينات أقلاماً لامعة لم تكن تجد غضاضة فى الدفاع عن الحكم أو الحكومة، لكنها كانت تعرف كيف تؤدى دورها. كانت «تتفنّن» حتى فى نفاقها للقائمين على الأمر حينذاك. والتجربة تقول إنهم نجحوا فى التأثير فى المصريين، انقلبت بعض هذه الأقلام فى ما بعد على نظام «عبدالناصر»، وهى تؤدى دورها بأمانة فى نفاق الرئيس «السادات»!، ورغم ذلك بقى أثر نفاقها لـ«عبدالناصر» فى وجدان الناس، وظل قطاع كبير من المصريين على ولاء تام للعهد الناصرى، والفضل فى ذلك يعود إلى إجادة الأقلام التى كانت تنافق ومراعاتها لـ«فنون الشغلانة». ولست أريد أن أذكرك بأقلام كبار دافعوا عن عصر «السادات»، من أمثال موسى صبرى وأنيس منصور ومصطفى محمود وغيرهم. هؤلاء الذين جمعوا بين كراهية عصر «عبدالناصر» ومحبة «السادات» إلى حد الولع، والدفاع عنه إلى حد لا تستطيع أن تفصل فيه بين خطوط النفاق الهادف إلى تحقيق مصالح معينة، وخطوط الإيمان الحقيقى بسياسات الرجل، خصوصاً بعد الخطوة التى اتّخذها «السادات» بزيارة إسرائيل وإبرام معاهدة سلام معها.
فن النفاق زمان كان أكثر ازدهاراً مما هو عليه الحال هذه الأيام. النفاق حالياً يمارس بطريقة يمكن وصفها بـ«الكاريكاتيرية». منافقو اليوم مضحكون، ويضرون أكثر مما ينفعون، ويزهدون الناس فى ما يدافعون عنه. ولا أجدنى بحاجة إلى ذكر أسماء لنماذج تعرفها جيداً. ومؤكد أنك تضحك عليها. ولا ينطبق هذا الأمر على المنافقين فقط، بل يمتد أيضاً إلى المعارضين. زمان كان المعارضون أكثر فناً فى إقناع الجمهور برسالتهم، أما اليوم، فالمعارضون لا يقلون كاريكاتيرية عن المنافقين، دفاعاً عن الواقع.
حدثتك ذات يوم عن مسألة «فروق القدرات». هذا المفهوم لا بد أن يقفز فى التفكير عند عقد أى مقارنة بين «فن النفاق» بالأمس وأوضاع هذا الفن اليوم. ثمة فروق واضحة فى القدرات بين إعلاميى القرن العشرين، والإعلاميين الذين بزغ نجمهم مع بداية الألفية الجديدة. إعلاميو اليوم أقل قدرة وأضعف مهارة على هذا المستوى. ومثلما أصاب «عطب الأداء» جوانب عديدة فى حياتنا، فقد امتد بتأثيره إلى هذا الجانب، على ما يعبر عنه من مأساوية. وقد يكون من المضحك أن نقول إن النفاق قل خيره، لأن فنونه أصبحت بـ«عافية»!.