بعد مُضى 48 عاماً على وفاة الرئيس جمال عبدالناصر، لم يزل الرجل يملأ الدنيا ويشغل الناس، رغم آلاف الكتب والمقالات والحوارات والوثائق وساعات البث، التى استهدفت نقده، وفضح مثالبه، وتخطئة خياراته.
يوم الجمعة الماضى، حلت ذكرى رحيل ناصر، حيث تكرست حقيقتان يصعب جداً دحضهما، أولاهما أن الرجل ما زال قادراً على إثارة الجدل والانقسام الحاد والجوهرى بشأنه، وثانيتهما أنه ما زال قادراً على الدفاع عن نفسه، وهو فى ذلك يبلى بلاء حسناً، لا يخصم منه تعاقب السنين، أو تغير المآلات، وتبدل الظروف.
بوصفه زعيماً امتلك طموحاً تجاوز حدود بلده، وظهر فى فترة تحولات عالمية، تأثرت فيها السياسات الإقليمية والدولية بما اختاره لنفسه من أدوار، فإن الجدل حول ناصر يمتد إلى المنطقة العربية، ثم إلى العالم الثالث، ويكاد يجترح موقعاً فى دوائر عالمية مؤثرة باطراد.
ما سر عبدالناصر، الذى نعرف أنه مات، ونعرف أيضاً أنه قادر على الدفاع عن نفسه فى مواجهة رجال أحياء؟
ثمة زاويتان يمكن النظر عبرهما إلى تجربة عبدالناصر، أولاهما الزاوية الإقليمية والدولية، وثانيتهما الزاوية الوطنية، وفى ذلك التفصيل ما يمنح هذا الزعيم أفضلية مبدئية عند مقارنته بمعظم أسلافه، إذ اكتفى هؤلاء عادة بوجود أممى متحفظ، وعلاقة باهتة بالإقليم والعالم، بشكل لم يُثِر حماسة المصريين، أو يخاطب فخرهم الوطنى.
سنجد بين زعماء العالم وسياسييه من يطلب الفرصة، وينتهزها، ليعبر عن احترام وتقدير بالغين لتجربة عبدالناصر، وهؤلاء يحبون أن يطلقوا عليه وصف «الزعيم الخالد»، وكان بين هؤلاء زعماء مرموقون من أمثال مانديلا، وشافيز، وكاسترو.
سنجد أيضاً قطاعات من السياسيين والمثقفين، والصحفيين، والجماهير، التى تجد فى خيارات «ناصر» الإقليمية والدولية توافقاً مع توجهاتها، وهؤلاء يعيشون فى دول ومجتمعات تقاطعت سياسات الزعيم الراحل مع مصالحها أو أثرت فى مستقبلها، مثل اليمن، والجزائر، والعراق، والكويت، وسوريا، والكثير من دول القارة الأفريقية.
سيمكن فهم وجود رصيد سياسى وشعبى لـ«ناصر» لدى قطاعات مؤثرة من النخبة والجمهور فى بلد مثل الجزائر، خصوصاً أن الرجل بذل جهداً ضخماً، وخصص موارد، وخاطَر، لكى يدعم «ثورة الجزائر»، وصولاً إلى الاستقلال عن فرنسا، وهو الأمر الذى كلفه ثمناً غالياً حين تم شن العدوان الثلاثى على مصر فى العام 1956.
الأمر ذاته ينطبق على اليمن الذى يعتقد قطاع من شعبه أن تدخل عبدالناصر مناصراً ثورته فى 1962 أدى إلى إعلان الجمهورية فى الشمال، قبل أن يسهم فى تحقيق استقلال الجنوب.
أما الدول الأفريقية التى انشغل «ناصر» بدعم جهود الاستقلال فيها، وخصص لذلك جهداً سياسياً وموارد ضخمة، أثمرت تغيراً جوهرياً فى مصائر معظمها، فلا عجب أن يظل بين أبنائها من يتذكر هذا الدعم، ويُقيّم مكانة «ناصر» التاريخية على أساسه.
لقد أَمّنت صنائع «ناصر» الإقليمية والدولية له وضعاً خاصاً، وحافظت له على شعبية ما زال أثرها ملموساً، ورغم أن انحيازاته، وسياساته، أنتجت أعداء ومعارضين، فإن أصوات هؤلاء تخفت فى مقابل رصيد ضخم يعزز من أثره تمتع النخب التى استفادت منه بمراكز أكثر نفاذاً فى مجتمعاتها.
على الصعيد المحلى، لا يمكن نسيان ذلك اليوم الذى أقسم فيه الرئيس الراحل السادات اليمين الدستورية رئيساً للبلاد فى أعقاب وفاة ناصر، حيث حرص الرئيس الجديد على أن ينحنى أمام تمثال صغير لسلفه الراحل فى بهو «مجلس الأمة» (البرلمان)، متعهداً بـ«السير على خطاه».
لقد عرفنا لاحقاً أن السادات ربما سار على خطى ناصر بـ«ممحاة»، وأنه مَثّل تقريباً كل ضد ومغاير لسياسات سلفه، لكنه مع ذلك، لم يكن قادراً على قول ذلك علناً.
الأمر ذاته ينطبق على مبارك، ومن بعده مرسى، الذى يمثل أكثر الجماعات المحلية عداوة لـ«ناصر»، بتاريخ من الشقاق والدماء.
لقد بدأ «مرسى» رئاسته بنقد مبطن لـ«ناصر»، حين قال فى خطبته الأولى «الستينيات... وما أدراك ما الستينيات؟»، لكنه لم يستطع الصمود فى موقف المعادى لـ «ناصر»، إذ اضطر لاحقاً إلى الإشادة به عندما تحدث إلى عمال فى دلتا مصر، فذكّر بجهد الزعيم الراحل فى التنمية الصناعية، وحينما تحدث إلى مؤتمر دول عدم الانحياز فى إيران، فاستدعى صنائعه على صعيد إنشاء الحركة، وتعزيز الحياد الإيجابى ودعم استقلال الشعوب.
وعلى هامش مشاركة الرئيس السيسى الأخيرة فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، خرجت الصحف المصرية بعناوين متشابهة تقريباً تتحدث فى مجملها عن «استدعاء عبدالناصر» وميراثه الأممى المُشرف.
لقد كان لافتاً ومحيراً لدى كثير من المحللين الذين دققوا النظر فى وقائع الانتفاضتين اللتين شهدتهما مصر فى 2011 و2013، أن صورة عبدالناصر كانت موجودة، بحيث يمكن القول إنها أكثر الصور التى تم رفعها فى الحالتين بعد استبعاد صور الفاعلين المواكبين للأحداث وصناعها بطبيعة الحال.
ورغم أن الجدل الذى يتفاعل بانتظام منذ وفاة ناصر، ويتجدد كل عام فى مناسبات معروفة، لا تنقصه الإشارة إلى أن «ناصر» قائد «مهزوم، ومستبد، وعظيم الأخطاء»، فإن نتيجته عادة ما تأتى فى موضع إنصاف الزعيم وتفهم «إخفاق تجربته»، عبر ربطها بالظروف.
ولعل ما قاله نجيب محفوظ على لسان إيزيس، فى روايته «أمام العرش»، بحق عبدالناصر، يمكن أن يشرح هذا التضارب، إذ قالت: «إن فرحتى برجوع العرش إلى أحد أبنائى لا تقدر، وإن أعماله الجليلة لتحتاج إلى جميع جدران المعابد لتسجيلها، أما الأخطاء، فلا أدرى كيف أدافع عنها».
وهنا يمكن أن نجازف بمحاولة الإجابة عن السؤال الخاص بـ«سر ناصر»، فى ما يخص موقف المصريين منه، بعد قرابة نصف القرن من رحيله، حيث لن نجد سوى تفسير منطقى واحد، يتعلق بطبيعة المصريين أنفسهم.
فيبدو أن المصريين ينظرون إلى زعمائهم من زوايا ثلاث: الاستقامة الشخصية، والعدالة الاجتماعية، والفخر الوطنى، وأنهم يغفرون ما سوى ذلك.
ستكون تلك طريقة غير منصفة للتعاطى مع القادة النبهاء، والمنتصرين، والديمقراطيين، لكن تلك هى الحقيقة التى تتعلق بشعب تاق آلاف السنين إلى الاستقامة والعدل والعزة، ولم يجنِ سوى الخذلان.