ما زلت أذكر ذلك المستشفى الذى يقع فى أحد مراكز محافظة قنا فى أعماق الصعيد.. والذى كنت أسافر إليه منذ سنوات لإجراء عمليات مرة كل أسبوع أو أسبوعين.. لقد كان يتبع إحدى الهيئات الإنجيلية المنتشرة فى مصر كلها وفى الصعيد بشكل خاص..
كان هذا قبل ثورة يناير بسنوات قليلة.. وقد كنت حريصاً على السفر بانتظام لأسباب متعددة.. ففضلاً عن المقابل المادى الذى كنت أحتاج إليه بشدة فى هذا الوقت وأنا أبدأ حياتى العملية.. إلا أن السبب الأهم لحرصى على الانتظام هناك هم العاملون بالمستشفى أنفسهم من أهل البلد..
لقد كانوا فى غاية الود والاحترام.. ابتسامة ودود لا تفارق وجوههم أبداً مهما أثقلتهم الهموم.. ما زلت أذكر «عم ميلاد» سائق السيارة التى كانت تقلنى من وإلى محطة القطار.. العجوز الذى فقد معظم أسنانه ولكنه يصر على الضحك ليكشف بأريحية شديدة عن ذلك الفم الفارغ.. لقد شكت زوجته بآلام بالكلى فى الصباح الباكر.. فما كان منه إلا أن تركها وحضر إلىّ ليوصلنى للمستشفى أولاً.. ثم ذهب ليأتى بها للمستشفى.. ليحجز لها كشفاً عندى!!.. دون أن يحاول أن يتحدث معى فى هذا الأمر طوال الطريق.. أو حتى يسألنى عن أى إجراء مؤقت وكأننى لست طبيباً من الأساس.. وعندما استنكرت ما فعله رد بأننى غير ملزم بالعمل فى الطريق من محطة القطار إلى المستشفى!!
لقد استمر التواصل بيننا بشكل منتظم حتى بعد أن قامت الثورة وانقطعت عن الذهاب مرغماً.. بعد أن تحول ركوب القطار إلى مغامرة غير محسوبة!!
ما زلت أذكر مستوى النظافة والنظام اللذين كان عليهما المستشفى.. كانت الراهبات يشرفن على كل شىء تقريباً.. فهناك راهبة تشرف على النظافة.. وأخرى على قطاع العمليات.. وثالثة للرعاية المركزة.. كل فرد كان يعرف عمله جيداً.. لم يكن مقبولاً أن تجد تقصيراً من أى اتجاه.. لقد كان النظام هو كلمة السر.. كانت الإدارة هى السبب الرئيسى لهذا المستوى الرائع..! هناك قصة يحكيها أحد أساتذتى الكبار أن مستشفى أسوان العام قد حصل على المركز الأول على مستوى مستشفيات الجمهورية عامين متتاليين 1976 و1977.. متقدماً فى هذا على جميع المستشفيات الجامعية آنذاك بما فيها قصر العينى.. فكيف تأتى لمستشفى حكومى قابع فى أعماق الصعيد أن يتفوق على كبريات مستشفيات العاصمة بل ومصر كلها..؟
السر كان أن هذا المستشفى يشرف على إدارته طاقم تمريض من الراهبات الإيطاليات الأصل.. كانت هناك راهبة تشرف على عنابر المرضى وأخرى تشرف على غرف العمليات والتعقيم وأخرى تشرف على المطبخ والمغسلة.. فكان المتردد على المستشفى لا يرى عقب سيجارة على الأرض ولا ذبابة فى عنابر المرضى ومواعيد الزيارة تطبق بصرامة.. الأمر لم يكن يحتاج إلى ميزانيات ضخمة أو إمكانيات كبيرة.. إنها إدارة سليمة.. فقط لا غير!!
الأمر يمكن تعميمه بشكل أكبر.. فحتى فى تلك الدول التى نحكى عنها بحسرة ونتمنى أن نصبح مثلها فى الرعاية الصحية لا يختلف الأمر كثيراً.. فحين سافرت النمسا كانت رئيسة تمريض العمليات هى المسئولة الأولى عن كل شىء.. لم نتفق من اللحظة الأولى.. لقد استنكرت شدتها وحدتها فى التعامل معي -ومع غيرى- إنها سيدة ألمانية متعجرفة.. هكذا صنفتها بينى وبين نفسى دون أن أجرؤ على مواجهتها!! حتى أتى اليوم الذى حدث فيه عطل بسيط فى التكييف المركزى للعمليات.. فما كان منها إلا أنها أمسكت بإحدى الأوراق وبدأت تحركها كالمروحة أمام وجهى حين شعرت أننى أتصبب عرقاً!! بل ولم تغادر المستشفى على الرغم من انتهاء نوبتجيتها إلا بعد أن تم إصلاح التكييف والاطمئنان عليه.. أتذكر تلك السيدة دوماً كلما وجدت الممرضة التى تعمل معى بالمستشفى فى مصر قد أبدلت ملابسها واستعدت للانصراف قبل ميعادها بساعة على الأقل!!
إنه الفارق بين العمل والوظيفة.. بين إدارة المنصب والتعامل مع مسئولياته..لا أعرف إن كان البعض سيفترض أننى أتحدث عنه تحديداً.. ولست مسئولاً عن أن يقارن البعض الآخر ما رويته بما يحدث كل يوم فى كل المجالات وعلى رأسها الرعاية الصحية.. ولكنه فى النهاية الفارق بين «الإدارة» و«التدوير».. وما بينهما ندور فى دوائر مفرغة.. لا أظن أننا سنخرج منها قريباً!!