فى ذكرى رحيل عبدالناصر استاء عدد من السادة الخبراء والكبراء من استمرار الناس فى حب هذا الرجل رغم مرور ما يقرب من نصف القرن على وفاته. وقال الأستاذ أسامة غريب فى جريدة «المصرى اليوم» إن المصريين أصيبوا بـ«هيستيريا الزعيم» بسبب الأكاذيب التى رددها عبدالناصر ونظامه عن الأمجاد والبطولات الزائفة المنسوبة للزعيم الذى لم يقدم لمصر وشعبها سوى النكسات والهزائم والخسائر والضياع!
الناس يا أستاذ أسامة لم تحب عبدالناصر لأنه كان كذاباً، ولكنهم أحبوه لأنه أكثر زعماء مصر صدقاً فى انتصاراته وانكساراته، ولأنه لم ينل من الزعامة أى شىء سوى حب الناس، ليس فى مصر فقط ولكن فى كل دول العالم الثالث، الذى ناضل عبدالناصر من أجل تحريره من العبودية والتخلف والاستعمار.
التعليم فى عهد عبدالناصر لم يكن كذباً، والتصنيع فى عهد عبدالناصر لم يكن كذباً، والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص لم تكن كذباً، فى عهد عبدالناصر كان معى فى الفصل بإحدى المدارس الثانوية زميلان، أحدهما والده ترزى حريمى والثانى والده عريف شرطة، وتمكن الأول من الحصول على وظيفة وكيل نيابة عقب تخرجه فى كلية الحقوق، بينما التحق الثانى بكلية الشرطة وصار ضابطاً رغم وظيفة أبيه، فهل يمكن الآن حصول هذه الفئات على مثل هذه الوظائف؟
عبدالناصر لم يخترع النظام الأبوى الذى يلتف فيه الشعب بأكمله خلف الرئيس أو الزعيم أو الملك أو الخليفة (إلخ).. فالمصريون هم الذين شيدوا الهرم الأكبر للملك خوفو، والمصريون هم الذين صنعوا مكانة كل زعمائهم منذ زمن خوفو حتى عصور عرابى وسعد زغلول والنحاس ومصطفى كامل وغيرهم. والمصريون هم الذين اعتبروا الدولة العثمانية صاحبة امتياز الخلافة الإسلامية، ورفض الزعيم مصطفى كامل توجهات حركة «تركيا الفتاة» التى قررت التخلى عن المستعمرات التابعة لها ومنها مصر!
والمصريون هم الذين خرجوا فى يناير 2011 للمطالبة برحيل حسنى مبارك ثم صاروا الآن يلتفون حول جمال وعلاء حال ظهور أى منهما فى أى موقع جماهيرى أو شعبى أو رياضى، ويعبرون لهما عن مشاعر الحب والاحترام والامتنان، ويتمنى بعضهم وصول جمال مبارك للسلطة كما كان مقرراً قبل هوجة يناير!
النظام الأبوى فى مصر لا يقتصر على الحكام ولكنه يمتد إلى أى شخص يراه المصريون صاحب فضل عليهم. عندنا فى الإسكندرية شخصية يعرفها كل الناس ويعرفون تاريخها فى تجارة المخدرات، ولكن هذه الشخصية تحظى بحب واحترام كل قطاع غرب المدينة، وكان صاحبها يحقق نجاحاً ساحقاً فى كل الانتخابات البرلمانية دون تزوير أو تلفيق، لأن الناس تحبه وتحترمه بوصفه صاحب أياد بيضاء على الفقراء، ويقولون إنه «فاتح بيوت كتير» حتى لو كان قد صنع ثروته من تجارة الحشيش والأفيون.
وإن كان عبدالناصر قد صنع شعبيته بالأكاذيب والأونطة، كما يقول الأستاذ أسامة غريب وآخرون، فلماذا خرجت الملايين لوداعه عند وفاته رغم نكسة يونيو ورغم فشل الصواريخ المزعومة ومشروعات غزو الفضاء وغيرها من الخزعبلات الإعلامية التى روجها رجال عصره؟ ولماذا يصر الناس حتى الآن على حب واحترام هذا الرجل رغم رحيله عن الدنيا منذ خمسة عقود؟ ولماذا لم تشهد مصر بعد رحيله أية سياسات إيجابية ينعم فيها الناس بالعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص وتوفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة لكل فئات المجتمع؟
وإن كانت أبرز عيوب عبدالناصر هى القضاء على الديموقراطية السياسية وتعدد الأحزاب، فماذا حققت الأحزاب المصرية قبل ثورة يوليو؟ وماذا حقق الزعيم سعد زغلول بعد إيقاف ثورة 19 وذهابه إلى مؤتمر باريس للبحث عن حل سلمى أخوى للقضية المصرية؟ وكيف حال حزب الوفد الآن وهو يستجدى العضوية وينشر كل يوم صورة لأحد الأشخاص يصافح فيها السيد زعيم الحزب بمناسبة تحرير استمارة العضوية؟
الناس يا أستاذ أسامة ويا كل السادة الحكماء أعداء عبدالناصر وعصره لم يصابوا بهيستيريا الزعيم بسبب الأغانى والإعلام الموجه والخطب النارية والإنجازات الوهمية وكاريزما الرئيس، ولكنهم ببساطة شديدة توحدوا بالفعل مع شخصية عبدالناصر مثلما يحدث فى الأعمال السينمائية والدرامية، كان الرجل فقيراً مثلهم، ولم يمارس عليهم جنون العظمة أو استبداد السلطة أو جشع السلاطين، ولم يكن من مرتادى المنتجعات والقصور واستراحات الملوك، ولم يكن من هواة الخمر والقمار كزعماء الشعب المصرى فى عصور سابقة، ولم يكن متعصباً لدين أو جماعة أو فئة أو عنصر، ولم يكن يلتمس الخير لمصر فقط ولكن لكل الأمة العربية ولكل العالم الثالث ولكل مظاليم العالم بأسره. وإن كان ثمة عشق أسطورى وهيستيرى أصاب الناس تجاه عبدالناصر، فهو عشق القيم النبيلة التى أرساها فى البلاد حتى إن كان قد فشل فى تحقيق جانب كبير منها. وحين كنا نغنى أغانى الثورة لم نكن نقصد شخص عبدالناصر، ولكنه كان مجرد رمز نعبر به عن حب الوطن وحب أنفسنا وحب كل التوجهات النبيلة التى تبناها نظام عبدالناصر وناضل من أجلها.
فى عصر السادات، سمح النظام لكاتب يدعى جلال الدين الحمامصى بإصدار كتاب يزعم فيه أن عبدالناصر استولى على عشرة ملايين دولار من الولايات المتحدة الأمريكية وأخذها لنفسه. وعقب صدور هذا الكتاب سافر السادات فى زيارة لدولة الكويت، وأثناء مأدبة الغداء التى أقامها له أمير الكويت قيل له إن أحد الحاضرين مواطن كويتى يرغب فى توجيه كلمة للرئيس المصرى، وقال الرجل للسادات إنه مجرد شخص كويتى وليس من الأمراء أو المسئولين، وإنه قرأ ما قاله الحمامصى فى حق عبدالناصر، وإنه بصرف النظر عن صحة أو كذب هذا الكلام تمكن من جمع مبلغ عشرة ملايين دولار من الشعب الكويتى وقرر تسليمها للرئيس المصرى إبراءً لذمة عبدالناصر!
واكتشف الناس بعد ذلك أن المبلغ المذكور تسلمه عبدالناصر من أمريكا وأنفقه فى بناء برج القاهرة، ولم يكن لصاً أو مرتشياً كما حاول عوالم نظام السادات اتهامه!
هل شعب الكويت يا أستاذ غريب أصيب هو الآخر بهيستيريا الزعيم؟