قد يكون ذلك الوصف الأكثر تعبيراً عن حال هذا الشعب عشية نكسة 5 يونيو 1967. عاش المصريون حالة بؤس غير مسبوقة فى تاريخهم، بانت معالمها فى أمور عديدة، من بينها المبالغة فى جلد الذات، واتهام النفس بعدم القدرة على الفعل، فعل أى شىء. من عاش هذه الفترة لا بد أنه سمع تلك الأمثلة التى كان يستخدمها الشعب فى سب نفسه من فصيلة: «إحنا شعب زمارة تلمه وعصاية تجرّيه».. «إحنا شعب بيفطر فول ويتغدى كورة ويتعشى أم كلثوم». أعصاب الناس كانت تهتز لأبسط الأشياء، يضحكون بهستيرية، ويبكون حتى الإغماء، ويتعاركون لأتفه الأسباب. كان البؤس يُغلّف حياة المصريين بخيوط تشبه خيوط العنكبوت.
أسباب عديدة تراكمت وأدت إلى إغراق واستغراق المصريين فى هذه الحالة، بعد هزيمة 1967. أولها «الاستيقاظ على كذبة كبرى». والكذبة كانت تتعلق بحجم قوتنا، قياساً إلى قوة العدو. إعلام الستينات كان دائب الكذب على المصريين على هذا المستوى. يكفى أن أستشهد بأحد المسلسلات الإذاعية التى راجت فى ذلك الوقت، وتحكى قصة جندى يحدّث محبوبته ويسألها عما تريد من «تل أبيب». التليفزيون فى ذلك الوقت كان ينقل على الهواء مباشرة صور مواكب الجنود والأسلحة، وهى تتحرّك فى الشوارع نحو سيناء. مانشتات الصحف تتحدث عن الصواريخ القاهرة والظافرة ونسور الجو من طيارينا القادرين على القضاء على هذا الجسم السرطانى المسمى بـ«إسرائيل». رئيس دولة يخطب فى المصريين، معلناً القدرة على الوقوف ضد إسرائيل، ومن وراء إسرائيل. صدّق المصريون ذلك كما تعودوا أن يصدقوا كل من يجلس على «مقاعد القوة»، استناموا لهذا الكلام حتى استيقظوا على جمال عبدالناصر وهو يعلن الهزيمة والتنحى عن الحكم، استفاقوا حينها من «الكدبة»، التى كانوا يعيشون فيها.
السبب الثانى لحالة البؤس التى عاشها المصريون حينذاك أن الحرب أكلت الآلاف من شباب هذا الشعب، وأضاعت أرض سيناء، وضاعت فيها أموال البلد. وتكامل البؤس بعمليات الهجوم التى مارسها العدو الصهيونى على الداخل المصرى، وكان من أمض نتائجها قصف مدرسة بحر البقر، ليلقى عشرات الأطفال حتفهم، ولتشهد دماؤهم على عجز الكبار عن حمايتهم وتأمينهم من عدو تحرق نيرانه حتى الأطفال. أوجدت هذه الضربات حالة من البؤس والحزن المستطير فى نفوس المصريين أطارت عقلهم. وفى ظل هذه الظروف المتعثرة، كان مطلوباً من الشعب أن يستعد ويهيئ نفسه للحرب، وأن يتحمل حالة التردى التى أصابت المرافق العامة، نتيجة توجيه كل ما تملكه البلاد للمجهود الحربى وتحرير الأرض. وكان ذلك سبباً ثالثاً للبؤس، حيث تعقّدت معيشة الناس بصورة لم يعهدوها من قبل، لتتكامل مع إحساس طاحن بالعجز عن فعل شىء إزاء الحادث. ورغم كل ذلك رفع الشعب شعار «هنحارب»، بل تظاهر ضد الرئيس السادات عندما تباطأ فى اتخاذ قرار الحرب. لم يكن الشعب يفهم تعقيدات السياسة، ولا الأحاديث عن متطلبات التسليح. كان يفهم أمراً واحداً ملخصه أن عليه أن يخرج من «حالة البؤس» التى يعيشها، أياً كان الثمن ومهما كانت التكلفة.