إذا شاع الجدل لمجرد الجدل فى قوم، ضاعت أرزاقهم وغلبت عليهم التعاسة. وإذا ركز القوم فى فعل وربطوا العزم والإرادة كان النجاح حليفهم وغاب عنهم القلق والعبوس واستشرى التفاؤل والعطاء.. وإن كان الجدل منضبطاً وموصولاً بمصالح الوطن العليا، فهو فعل مطلوب وقدر مرغوب..واليوم نحن جميعاً نخبة وعامة منغمسون فى جدل أيهما أولاً، الانتخابات الرئاسية أم الانتخابات البرلمانية، ولكل حجته الوجيهة وأسبابه المقنعة. وقد كان من وظيفة لجنة الخمسين المكلفة بتعديل الدستور المعطل أن تحدد فى المواد الانتقالية طريقة ومدة الانتخابات البرلمانية وفقاً لما نصت عليه خريطة الطريق، وقد حدث أن صِيغت مادة بهذا المعنى، لكنها لم تحصل على توافق الأعضاء، الذين انتهى بعضهم إلى ضرورة تعديل خطة الطريق وفتح الباب أمام إجراء الانتخابات الرئاسية أولاً تليها البرلمانية، وهو اقتراح لم ينَل التوافق العام، وبقى الأمر معلقاً، ورُئِى أن يُترك تقدير الأولوية للرئيس المنوط به التشريع إلى أن يُنتخب البرلمان.
ولا شك لدىّ فى أن كل طرف لديه الحجج المقنعة، فالمؤيدون للرئاسية أولاً يضعون فى اعتبارهم حاجة المجتمع للشعور بالاستقرار واليقين بالمستقبل من خلال اختيار رئيس سواء كان الفريق أول عبدالفتاح السيسى صاحب الشعبية الجارفة أو غيره، يجدون فيه القوة والحسم والشعبية والأمان والمسئولية فى حماية الوطن، فضلاً عن أن اختيار الرئيس عبر انتخابات نزيهة وحرة سوف يقضى على الثغرة التى ينفذ منها الإخوان وتنظيمهم الدولى ومؤيدوهم فى حملتهم الضارية على مصر وشعبها. وفى المحصلة سوف يؤدى انتخاب الرئيس إلى وجود من يمثل البلاد وطموحها ومكانتها. ومن الأسباب الأخرى ذات الطابع العملى أن الانتخابات الرئاسية تعد الأسهل مقارنة بالانتخابات البرلمانية ولن تؤدى إلى خلق فرعون جديد، لأن هناك دستوراً يحدد صلاحيات الرئيس كما يحدد صلاحيات ووظائف المؤسسات الأخرى. وهكذا تجمع أسباب المؤيدين ما بين الاعتبارات السياسية ومشاعر الرأى العام والاعتبارات العملية.
والحق أن شقاً كبيراً من هذه الاعتبارات يبدو منطقياً ومتناغماً مع تطلعات أغلبية ساحقة من المصريين فى رؤية الفريق السيسى مُختاراً شعبياً على سدة الرئاسة، ولكنه أيضاً لا يخلو من مكامن ضعف، فإلى جانب أن تعديل خريطة الطريق ليس مُحبذاً من حيث المبدأ وحتى لا يتم التشكيك فى مجمل الخطوات التى انطوت عليها، فإن اختيار الفريق السيسى للرئاسة ومهما كانت درجة الشعبية والتأييد، فقد يُحمل من قِبل المناوئين بما ليس فيه، ويُنظر إليه باعتباره تعزيزاً للانقلاب العسكرى وعسكرة البلاد وقد بدأت بالفعل أقوال بمثل هذا المعنى. وفى كل التقارير المنشورة فى وسائل الإعلام الأجنبية يلاحظ المرء ثلاثة عناصر، أولها أنهم يصفون ما يجرى فى مصر باعتباره نتيجة لانقلاب عسكرى وليس نتيجة ثورة شعبية عارمة، وثانيها أن الفريق السيسى هو المهيمن على أعمال الحكومة والنظام السياسى برمته، وثالثها أن الدستور جاء ليحصن المؤسسة العسكرية وقائدها العام. وهى أمور وإن كانت تدل على النية المبيتة فى عدم تقدير دور الشعب فى إحداث التغيير وتجاهل قيمة ومكانة الجيش المصرى بين المصريين أنفسهم، فتشير إلى أن الاستقبال الخارجى المرجح لانتخاب الفريق السيسى رئيساً حال حدوثه، سيكون على الأرجح فى سياق تأكيد معنى الانقلاب العسكرى وعسكرة المجتمع. وفى تصورى أن الانتخابات الرئاسية إن اتُّفق على إجرائها أولاً ولم يشارك فيها الفريق السيسى، وانحصرت المنافسة بين رموز مدنية سواء شاركت من قبل فى الانتخابات الرئاسية لعام 2012 أم لم تشارك، فقد تحقق الهدف المتمثل فى إغلاق ثغرة عدم وجود رئيس منتخب وتحبط مزاعم الانقلاب العسكرى. ويطرح بعض المصريين البسطاء تساؤلاً حول مدى أن يكون الرئيس المنتخب هو نفسه الرئيس المؤقت عدلى منصور، الذى أثبت بأدائه أنه رجل دولة ويحسن التصرف ويقدم نموذج المسئول الواعى بحدود دوره والملتزم بالقانون. وبالتالى يظل الفريق السيسى فى موقعه المهم كقائد عام للقوات المسلحة يمارس دوره النبيل فى حماية الوطن من مخططات الحرب الأهلية وتقسيم الجيش وتفتيت الوطن بعد تخريبه. ويظل أيضاً الشخصية المحبوبة والموثوقة شعبياً، والمؤهل أن يكون رئيساً فى دورة لاحقة، بعد أن ينتهى غبار مزاعم الانقلاب ومؤامرات الإخوان.
هذا الطرح سمعته من أناس بسطاء يشعرون بأن مصلحة الوطن العليا الآن تتطلب بقاء الفريق السيسى فى موقعه على قمة المؤسسة العسكرية، وهى وجهة نظر تتسم بحكمة فطرية وتستحق المناقشة الهادئة. أما هؤلاء الذين يرون أولوية إجراء الانتخابات البرلمانية فلديهم خمس حجج، الأولى أن الوثيقة الدستورية نفسها وفى المادة رقم 141 الخاصة بالانتخابات الرئاسية تتضمن إقراراً ضمنياً بضرورة إجراء الانتخابات البرلمانية أولاً حتى يتسنى لمن يريد الترشح للرئاسة أن يتوفر لديه عدد 20 عضواً برلمانياً يزكون ترشحه. والثانية أن الالتزام بخارطة الطريق فى طبعتها الأصلية ومهما كانت الصعوبات يدلل على الثقة بالنفس وإرادة التضحية من أجل الوطن، والثالثة أن الانتخابات البرلمانية من شأنها أن تُحفز الأحزاب الليبرالية للاستعداد المكثف من أجل الحصول على أكبر نسبة ثقة من الشعب، والرابعة أن الانخراط الكبير للأحزاب الليبرالية والمدنية فى تحفيز المصريين للمشاركة فى الاستفتاء على الدستور الجديد سيؤدى إلى اكتساب مواقع بين الناس يسهل أن تترجم لاحقاً فى نسبة كبيرة من المقاعد البرلمانية، وذلك على عكس الانتظار عدة أشهر حتى تنتهى الانتخابات الرئاسية، والخامسة أن إقرار الانتخابات البرلمانية ثانياً سيقود إلى بلبلة خطيرة فى المجتمع. والحق هنا أن هذه الأسباب مجتمعة تمثل حجة منطقية متكاملة.
ولذا يظل التساؤل أيهما أفضل لظروف الوطن الراهنة؟ فى يقينى أن الأحزاب المدنية ومدى استعدادها لخوض غمار الانتخابات البرلمانية هو العامل الحاسم هنا، فإن كانت فى وضع قوة وانتشار وقدرة على اكتساب نسبة كبيرة من المقاعد البرلمانية، فلا بأس من أن يتم الالتزام الحرفى بخارطة الطريق، وإن كان الأمر معكوساً وهو الأرجح، فمن الأفضل أن تكون «الرئاسية» أولاً.