عندما نشبت الحرب العالمية الأولى (1914)، قررت إنجلترا فرض الحماية الإنجليزية على مصر. فى ذلك الوقت كانت «المحروسة» ولاية عثمانية تابعة لإسطنبول على المستوى الرسمى، وعلى الأرض كان الإنجليز يحتلون البر، وتنتشر جنودهم فى كل اتجاه، وكان حاكم مصر هو الخديو عباس حلمى (عباس الثانى) وقد رفض وقتها طلب الإنجليز بفرض الحماية على مصر رفضاً قاطعاً، وكانت النتيجة أن قرر الإنجليز إنزاله من فوق كرسى الحكم ونفوه إلى إسطنبول، متذرعين بانحيازه إلى أعداء حكومة «جلالة الملكة»، حين قرر أن يكون جزءاً من المحور الذى تصطف فيه تركيا ضد إنجلترا وحلفائها فى الحرب العالمية الأولى.
وبغض النظر عن الحسابات السياسية التى بنى عليها الخديو عباس حلمى رفض الحماية، فيبقى أن الرجل أبى أن يُكرر مسيرة أبيه «الخديو توفيق»، الذى سارع فى يوم إلى طلب الحماية الإنجليزية، وسمح بدخول الإنجليز إلى مصر، ليستقوى بهم على الثورة الوطنية التى اندلعت عام 1882 بزعامة أحمد عرابى. الوجدان الشعبى المصرى سفّه «عَمْلة» الخديو توفيق فى الهتاف الشهير الخالد «يا توفيق يا وش القملة.. مين قال لك تعمل دى العملة»، وفى المقابل احتفى بموقف عباس حلمى، الرافض للحماية بالهتاف الشهير: «الله حى.. عباس جاى». ويبدو أن بعض المصريين كانوا يحلمون بعودة الخديو عباس بعد الحرب، قناعة منهم بأن تركيا سوف تخرج منتصرة، وستنجح فى تحرير مصر من قبضة الإنجليز، ليعود «عباس» إلى القاهرة، فى زفة كبيرة، وهو ما لم يحدث بالطبع، إذ خرجت إنجلترا من الحرب منتصرة، وسقطت الدولة التركية التى كانت توصف بدولة «الرجل المريض»، ورغم ذلك لم يتوقف المصريون عن الهتاف بأن «عباس جاى»، تحية منهم لموقفه الرافض لفرض الحماية الإنجليزية على مصر.
بعد أن قام الإنجليز بخلع «عباس حلمى» أشاعوا أنه إذا لم يقبل ولى عهده الأمير حسين كامل الحكم تحت الحماية، فسوف يُحضرون أميراً هندياً ويعينونه والياً على مصر. وعندما وصل هذا الكلام إلى الأسرة العلوية اجتمع أعضاؤها، ومن بينهم حسين كامل، وتوافقوا على أن يقبل الأخير «الحماية» كشرط «للولاية»، حتى لا تتعرّض الأسرة للضياع. لم ينسَ الوطنيون المصريون لـ«كامل» هذا القبول المشين للحماية، وكاد السلطان الجديد لمصر أن يدفع حياته ثمناً لهذه الخطوة التى أهان بها نفسه وبلده ومواطنيه، حين قرر عدد من الشباب الوطنيين اغتياله، وتشير كتب التاريخ إلى محاولتين تمتا فى هذا الاتجاه، الأولى شهدها ميدان عابدين، عندما تعرّضت سيارة السلطان لرصاصات وجّهها إليه شاب من المنصورة، لكنها لم تفلح فى إصابته، والثانية فى الإسكندرية عندما ألقيت قنبلة يدوية على موكب السلطان ولم تنفجر.
المشاهد السابقة تلاحقت فوق أرض مصر المحروسة خلال العامين (1914 - 1915)، وهى فى المجمل تُدلل على أن الملوك والسلاطين أنواع، فمنهم من يقبل بحماية الأجنبى، ويستقوى به على شعبه، ومنهم من يرفض. والثابت دائماً هو موقف الشعوب التى تظل على إيمانها بضرورة رفض الركوع أمام الأجنبى، والاحتفاء بالحكام الذين يتناغمون معها فى هذا الرفض، وتسفيه الآخرين الذى يقبلون الدنية فى أوطانهم.