يمكن النظر إلى السلوك العسكرى الأمريكى عبر البحار من زاويتين، أولاهما الزاوية الوطنية التى ترى فيه ممارسة استعمارية بغيضة واستباحة لسيادة دول أخرى، وثانيتهما الزاوية الأمريكية التى تعتقد أنه ضرورة لصيانة مصالح الدولة الأقوى فى العالم.
وبصرف النظر عن المحاكمة الأخلاقية للتدخلات العسكرية الأمريكية عبر العالم، فثمة ذرائع يراها المنظرون والقادة الأمريكيون الذين يُسوّغون هذا السلوك ويعتقدون أنه ضرورى وحيوى، وهؤلاء يواجهون اليوم النزعة «الانسحابية والتجارية» التى تهيمن على خطاب الرئيس ترامب إزاء دور بلاده الاستراتيجى حول العالم، وهى نزعة تنذر بتغييرات جوهرية فى صلب العقيدة العسكرية الأمريكية، إذ تفيد التصريحات المتتالية الصادرة عنه أنه ينوى إجراء تغيير جوهرى فى تلك العقيدة.
مع مطلع القرن العشرين بات مصطلح العقيدة العسكرية أحد أهم عوامل فهم الطبيعة العسكرية للجيوش وتقدير حدود ممارساتها خلال الحرب والسلم. ويُعرّف «الناتو» العقيدة العسكرية بأنها «مُجمل المبادئ الأساسية التى تتخذها القوات العسكرية لإنجاز مهامها، وهى قواعد مُلزمة، وإن ظلت المواقف القتالية المختلفة الحكم الأساسى لاتباع أى من قواعد العقيدة العسكرية».
يعرف تاريخ الحروب بين الأمم ميراثاً من التنظير الذى يمكن تلخيصه فى مصطلح «عقد التاريخ العسكرى»، الذى يتناول بدوره سجلاً من الانتصارات أو الهزائم المرتبطة بقرارات واستراتيجيات محددة، تتحول فيه السياسة التى أثمرت نجاحاً إلى عنصر تفاؤل واستبشار، بينما تنزوى السياسات التى جلبت هزائم فى صورة «عقدة تاريخية» أو نذر شؤم.
من بين أشهر العقد التاريخية على المستوى الدولى إخفاق الجيش الأمريكى فى ستينات وسبعينات القرن الفائت فى فيتنام، وتورط الجيش السوفيتى فى أفغانستان. ترتبط هذه العقد التاريخية بمبدأ يمثل عنصراً من عناصر العقيدة العسكرية لأى جيش محترف، وهو العنصر الخاص بعملية الانتشار الخارجى، أو الحرب خارج الديار.
تشهد الحياة السياسية الأمريكية راهناً حالة جدل متجددة، وهو جدل ينعكس فى دراسات وأبحاث تصدر عن مراكز البحوث ومستودعات التفكير وأعضاء الإدارة، ويركز على طبيعة دور، وحدود انتشار، ونطاق عمليات القوات العسكرية الأمريكية. ينقسم المتجادلون فى هذا الصدد إلى فريقين رئيسيين، أولهما يعتقد أنه من الضرورى أن تقلل الولايات المتحدة من وجودها العسكرى فى العالم، وأن تجتهد فى سحب العديد من القوات المنتشرة فى عشرات النقاط الساخنة حول العالم، ويستند هؤلاء فى تأييد حجتهم إلى إخفاق القوات الأمريكية فى فيتنام، وعدم تحقيق الأهداف المرجوة فى العراق وأفغانستان.
بينما يرى الفريق الثانى أن إعادة انتشار القوات الأمريكية بشكل يحد من وجودها فى الخارج يخصم من القوة الشاملة للولايات المتحدة، ويعرض أمنها القومى للخطر.
فى صيف العام الحالى، صدر كتاب مهم للمؤرخ الأمريكى روبرت كيجان، بعنوان «الغابة تعود إلى النمو: أمريكا وعالمنا المهدد» (The Jungle Grows Back: America and Our Imperiled World)، وهو الكتاب الذى يشرح فيه «كيجان» أهمية بقاء الجيش الأمريكى منتشراً فى المناطق التى ترى واشنطن أنها مهمة لتحقيق أمنها القومى وصيانة مصالحها.
ويلخص «كيجان» فكرته فى أن «نشر الجنود خارج الديار هو أمر سيئ، لكنه يحدث تجنباً للأكثر سوءاً، وبقاؤهم داخل الحدود آمنين هو أمر جيد، لكن يجب ألا ينطوى ذلك على خسارة أمننا القومى وتعريض حياتنا للخطر وخسارة موقعنا فى العالم». يعتقد البعض أن معظم تدخلات أمريكا العسكرية فى الخارج لم تسفر سوى عن خسائر، عندما تهيمن عليهم فكرة فيتنام، لكن هؤلاء يفوتهم سجل حافل من التدخلات الأمريكية العسكرية الظافرة، التى جعلت أمن الأمريكيين أمنع وحققت مصالحهم الاستراتيجية بشكل أفضل من وجهة النظر الوطنية الأمريكية.
من بين التدخلات التى لا يذكرها أصحاب الاتجاه الأول التدخل فى كولومبيا 1901، وهندوراس 1902، واستعادة النظام فى كوبا 1906، ودخول هاييتى 1914، والسيطرة على الدومينيكان 1916، والإطاحة بحكومة جواتيمالا 1954، وغزو خليج الخنازير 1961، والتدخل فى شيلى 1973، ومهاجمة ليبيا 1986، وضرب بنما واعتقال مانويل نورييجا 1989، وصولاً إلى حرب البوسنة 1992، وضرب بلجراد 1999، إضافة بالطبع إلى نجاح واشنطن فى قيادة تحالف دولى أخرج العراق من الكويت بعد غزوها فى مطلع العقد نفسه.
إنه قرن كامل من استخدام القوة العسكرية الأمريكية خارج الديار، ورغم أن معظم تلك التدخلات لم تستند إلى ذرائع أخلاقية أو سياسية مقبولة من وجهة نظر المستهدفين ومعظم دول العالم، فإنها فى النهاية حققت المصالح الوطنية الأمريكية بشكل ملحوظ من وجهة نظر القادة فى واشنطن، وربما أسهم بعضها فى صيانة مصالح البلاد وأمنها.
فى العام 1993، صدرت وثيقة استراتيجية فائقة الأهمية فى موسكو، بعنوان «وثيقة الأمن القومى»، وهى الوثيقة التى أعادت تشخيص المنهجية العسكرية للبلاد، مشددة على «توفير القدرة الكاملة للقوات التقليدية على الانتشار الاستراتيجى فى مناطق الأزمات، والقيام بعمليات ناجعة وسريعة».
انطلاقاً من تلك المنهجية، يمكن فهم السلوك الروسى إزاء أوكرانيا، ودول أوروبا الشرقية التى انضمت لـ«الناتو»، وسوريا. سيمكن أيضاً أن تتم محاكمة السلوك العسكرى الروسى فى تلك المواضع أخلاقياً وسياسياً، وصولاً إلى إدانته مثلما هو الحال مع السلوك الأمريكى، لكن الأكيد أن الدولة الروسية ترى فى هذه المنهجية صيانة لأمنها الوطنى كما تشخصه، وتعزيزاً لمصالحها كما تراها.
لطالما كان احترام سيادة الدول، وعدم التدخل فى شئونها، والابتعاد عن استخدام القوة، مسألة ضرورية أخلاقياً وسياسياً، لكن بعض متطلبات الدفاع تفرض انتشار القوات خارج الديار، وبعض مقتضيات الأمن الوطنى والمصلحة الوطنية تفرض القتال عبر البحار.
لقد خلص الفكر الاستراتيجى الغربى فى مجال الدراسات العسكرية إلى ضرورة المرونة فى تحديد نطاق الانتشار العسكرى والعمليات العسكرية وفقاً لطبيعة التهديد وميزان القوى بين الأطراف المتصارعة.
يريد الرئيس ترامب أن يحد من انتشار القوات الأمريكية خارج الديار، أو أن يحولها إلى مرتزقة تُحصل عائدات انتشارها «فوراً ونقداً»، وهو أمر يزعزع العقيدة العسكرية للجيش، ويمنح فرصاً لروسيا والصين للعب أدوار خارجية أكثر فاعلية، ويقوض نفوذ واشنطن.
سيخوض ترامب صراعاً مريراً لتمرير فكرته، وهو صراع سيواجه فيه مردة وتنانين، وقد يكتب نهايته.