كنت عائداً من شمال سيناء، قبل هذا التاريخ بنحو شهر تقريباً. بعد أن قضيت سنوات، بدأت قبل ثورة يناير 2011 بثلاثة أعوام، وامتدت لعام ونصف بعدها، هى عمر خدمتى فى مدينة العريش ضابطاً بقوات الشرطة، لأغادرها مُنهياً حياتى الوظيفية بوزارة الداخلية فى نهاية أغسطس 2012.
التاريخ المشار إليه بعاليه هو تقريباً نهاية سبتمبر من العام 2012، حيث ظللت طوال هذا الشهر فى حالة من الإحباط والصدمة، جرّاء آخر مشهد علق بذهنى وكيانى من رحلتى التى امتدت بسيناء، وكأنها أبت إلا أن يكون ختامها بما لم أُلقِ له حساباً. فبقدر ازدحام ما عايشته هناك منذ ليلة التاسع والعشرين من يناير 2011 وحتى المغادرة، ظلت «مذبحة رفح الأولى»، التى وقعت فى 5 أغسطس 2012، ختاماً ثقيلاً ومضنياً عايشت تفاصيله منذ لحظة وقوف طعام إفطار رمضان فى حلوقنا، وهم يخطروننا على أجهزة اللاسلكى بوقوع هجوم إرهابى على نقطة عسكرية، راح ضحيته 16 شهيداً من جنودنا الأبطال، بالقرب من مدينة «رفح».
لم تكن الحوادث الإرهابية قد ظهرت بهذه الصورة المركزة الاحترافية حتى هذا التاريخ، حيث ظلت طوال الفترة -منذ يناير 2011 وحتى وصول الإخوان- تدور فى مناطق الشيخ زويد والعريش بصورة متقطعة ونوعية إلى حد كبير، مثل تفجيرات خط الغاز، والهجوم على أقسام الشرطة بالعريش. وأُجهضت أكثر من مرة محاولات السيطرة على المدينة، لكن لم يجر هجوم إرهابى بهذه الجرأة والكثافة النيرانية على موقع عسكرى إلا بعد تولى الإخوان الحكم وتنصيب محمد مرسى رئيساً. لذلك مثلت «مذبحة رفح الأولى» محطة فارقة، وإيذاناً ببدء فصل جديد من الأحداث بسيناء. وقد كان الأمر يراد له ذلك بالفعل، ويرتب له طوال الشهور الثقيلة التى مرت خلال الفترة الانتقالية التى عبرها الوطن بصعوبة بالغة، وبقدر عالٍ من السيولة، ظلت ربما خافية على الرأى العام، فى الوقت الذى كان انتباهه فيه معلقاً بالأحداث المتسارعة لما يجرى بالقاهرة.
كنت ألحظ ذلك بوضوح فى زياراتى المتقطعة التى أعود فيها إلى القاهرة، فالأمر حينها كان أكثر وضوحاً فى سيناء، ومغايراً تماماً لما كان يجرى فى ميدان التحرير من فعاليات متتابعة، فقد كان اختطاف الوطن يجرى على قدم وساق، وخدعة نجاح وسيطرة مشروع الإسلام السياسى على البرلمان -ومن بعده كرسى الرئاسة- من قبَل الإخوان والسلفيين، كان يرتب لها بدأب فى سيناء، لكى تكون الذراع المسلحة للمشروع حاضرة ومتجهزة فى هذه البقعة من أقصى الشمال الشرقى للوطن. لذلك جرت وقائع المذبحة المفاجئة إيذاناً ببدء فصل نجاح المشروع فى الاستيلاء على غنيمة «الحكم»، حيث انطلقت رصاصات الغدر وقذائف الهاون بعد شهر واحد من تسلم محمد مرسى للسلطة.
لم يكن المشهد بكل ما جرى فيه، فضلاً عن التعقيد الشديد لمئات التفصيلات، بقادر على توفير الوضوح الذى يمكنه تفسير تآمر رئيس الدولة حينها على جيش دولته، من خلال الإيعاز إلى الإرهابيين بالقيام بهجوم مدوٍّ على جنوده، فالذى تكشّف بعد عام من هذا التاريخ، وفجّر ثورة 30 يونيو 2013، كان لا يزال غامضاً فى رحم مظلم. فنحن هنا نتحدث عن توقيت مبكر جداً، لم يكن أحد -فى أسوأ توقعاته- يظن أن هذا يجرى بهذه الكيفية وبتلك السرعة الزمنية.
اثنان فقط تحدثت معهما عما تحمله نفسى من هواجس وضيق ثقيل لما يتم إعداده لسيناء، بكل ما شاهدته وما أرى أنه يجرى متسارعاً خلف الأحداث. الأول أبى اللواء متقاعد محمد زكى عكاشة، المحارب القديم الذى خاض حروب الجيش المصرى فى سيناء حتى تحريرها، والثانى الكاتب الكبير الأستاذ جمال الغيطانى، رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته. الاثنان جمعتهما صداقة عميقة امتدت لعشرات السنوات، خاضا معاً فيها الكثير من أجل هذا الوطن. هذا أتاح لى لقاء الأستاذ جمال منذ منتصف الثمانينات، ليتفضل علىّ بشرف صداقته والتتلمذ على يديه، حتى صار لى بمثابة «عم» حقيقى، لم أجد سواه بعد أبى أبث له شجون ما كان ماثلاً أمامى.
بين يدى أبى وجدت مساحة عريضة من الغضب، لم تكن كلماتى هى التى صنعته، بل كان حاضراً من وقت الجنازة العسكرية لـ«شهداء» المذبحة. كان يرتجف مستمعاً لما أقصه، وتلوح الدموع فى عينيه، والمشهد يتكامل أمامه، بعد القرارات التى تم إصدارها بعد ساعات من الجنازة. فى حضرة الأستاذ جمال الغيطانى، وحدنا فى مكتبه بأخبار اليوم، بدا لى ذاهلاً، وخُيِّل إلىّ أننى أثقلت عليه بحضورى، قبل أن يطلب منى أن أقص عليه تفصيلياً ما يجرى هناك. لذلك أمطرنى بأسئلة تستكشف أغوار المشهد، وتستجلى تفاصيل «كل» شىء، فى نهم قلق استغرقنا ثلاث ساعات كاملة. قبل أن أرتج من سؤاله الذى سمعته من أبى قبلها بيوم أو اثنين، بذات حروفه وصيغته، مغلفاً بنفس النظرة المتحفزة. (وانتم هتعملوا إيه؟). لم أدرِ من «نحن» المقصودون بالخطاب منهما، فكلاهما تساءل وفى ذهنه مسارات ودروب يعلم جيداً أنها ليست معبّدة بالإجابات على الأقل حينئذ.
نظمت فعالية سميناها «حتى لا تضيع سيناء». بمجرد سماع أبى بها، اختار أن يجرى لها حشد جماهيرى أمام النصب التذكارى لـ«الجندى المجهول». فى يوم 24 أكتوبر 2012، مبكراً فى «أول» فعالية تجرى بالشارع ضد حكم الإخوان، كانت السيارات المنطلقة بطريق النصر تهدئ من سرعتها، لينظر ركابها فى دهشة تجاه الواقفين فى صمت يحملون أعلام مصر وأوراقاً مطبوعاً عليها كلمة واحدة «سيناء». ومن ترجّل ليعرف ماذا يجرى كان يجد مجموعة فريدة من كبار السن والمتقاعدين من ضباط وجنود الجيش المصرى، وأبى وجمال الغيطانى وعم حسن خلف «شيخ مجاهدى سيناء»، صديقهما بطل قبيلة «السواركة»، ينظمون الصفوف، وهم يتكئون على عصيّهم أو يتساندون على أذرع مساعديهم فى الوقوف!