ذكرنا فى المقالات السابقة خمس شهادات تؤكد ندم «البنا» على أن خاض بالجماعة معترك السياسة، وأنه تمنى لو اقتصرت الجماعة على الدعوة والتربية، واليوم نضيف أن الأستاذ أبوالحسن الندوى المتوفى 1999م، -وهو مفكر إسلامى هندى مقرب من الإخوان- زار مصر بعد وفاة البنا، وكتب فى مذكراته المسماة: (فى مسيرة الحياة)، ج1، دار القلم، دمشق، ط1، 1987م، ص235): (ولقد علمت من عدد من المصادر الصحيحة التى يُعتمد عليها أن الإمام حسن البنا كان يتأسف فى آخر أيام من حياته ويتألم من أنه اضطر للدخول فى المجال السياسى قبل أوانه، وأحاط به الطريق الشائك، وأنه كان يتمنى كثيراً أن يعود -مرة ثانية- إلى العمل الدعوى التربوى الخالص)، والمصادر التى اعتمد عليها «الندوى» هى والد البنا، والبهى الخولى، وصالح العشماوى، وعبدالحكيم عابدين، وسعيد رمضان، ومنير الدلة، وفريد عبدالخالق، وهؤلاء من الرعيل الأول من مؤسسى الجماعة.
أما فتحى رضوان -وكان أحد زعماء الحزب الوطنى الذى أسسه المرحوم مصطفى كامل- فقد كتب مقالين يؤكد فيهما ندم البنا، المقال الأول لم أقف عليه، ولكن «عصام تليمة» أشار إلى أنه كتبه فى جريدة «الجمهورية» عدد 29 أكتوبر 1950م، وقال فيه: «فى شتاء 1948م كنت دائم الاتصال بالمرحوم حسن البنا، وقد أسفر هذا الاتصال عن تفكيره جدياً فى أن يوكل نشاط الإخوان المسلمين السياسى إلى الحزب الوطنى، وأن يقتصر عمله هو ودعوته على الناحية الدينية البحتة».
لكن فى 1950م لم تكن الجمهورية صدرت، لأن مصر كانت ملكية، فيبدو وجود تحريف فى توثيق المصدر، لا فى الناقل فتحى رضوان، لأن محمود عبدالحليم -عضو الهيئة التأسيسية للإخوان- نقل فى كتابه: «الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ» ج2 من ص121-124، كلام رضوان، لكنه برر كلام البنا بأنه خطة حين «رأى غيوم المؤامرات تتجمع فى الأفق، حتى إذا أفلتت الجماعة من هذا عملت على تفتيت هذه الغيوم، وإلا بالبنا كان خير من يعلم أن فصل ما يسمونه السياسة عن الدين لا يمكن تصوره بالنسبة للإسلام».. وكلام محمود عبدالحليم مردود عليه بنقطتين:
الأولى: أن البنا لو قال هذا الكلام أمام السياسيين كفتحى رضوان لجاز أن تكون مكيدة منه، والمكائد فى تاريخ الإخوان معروفة، إلا أن البنا قال هذا الكلام أمام المقربين منه كوالده، والغزالى، وعبدالعزيز كامل، وفريد عبدالخالق، ومحمد الحامد، وصالح العشماوى، وعبدالحكيم عابدين، ومنير الدلة، ووالده.
الثانية: أن البنا لم يقصد فصل الدين عن السياسة، ولكن قصد أن الإسلام لا يُخدم بهذه الطريقة التى عليها الإخوان، بل يخدم من خلال الرقعة الأوسع فى الإسلام، وهى رقعة العلم والتزكية والتربية والتسامح والعفو والحضارة.
وأما فتحى رضوان فله مقال آخر بخصوص تراجع البنا موثق فى جريدة الجمهورية العدد 809 فبراير 1976م، وهو ما نتناوله فى المقال المقبل.
وفى شهادة فتحى رضوان التى جاءت فى مقال آخر له بالجمهورية فى 19 فبراير سنة 1976، قال إن البنا بدا له أن السياسة قد تحجب الأصل الذى قامت عليه الإخوان، وهو كونها جماعة دعوة وإرشاد، وتهذيب للنفوس، ورد الناس إلى دينهم، واستلهامه فى شئون دنياهم وآخرتهم، ولا يغير من الأمر أن يكون الإسلام ديناً ودولة، لكن الاستغراق فى العمل السياسى صارف الجماعة عن هدفها، ولو إلى حين عن كفاحها الذى نصبت نفسها له أولاً.