بإمكانك القول بأن الاتهام بالزندقة أو المروق عن الدين أو الإلحاد بالمصطلح المعاصر ظهر مباشرة بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم. فقد اتهم أبوبكر العرب بالردة عن الإسلام بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ووصف زعماء الخروج عليه بادعاء النبوة والقاعدة العريضة بمنع الزكاة، وبناء على ذلك فقد برَّر لنفسه حربهم فى وقت تبنَّى فيه قسم من الصحابة، من بينهم عمر بن الخطاب، وجهة نظر مغايرة للخليفة. وقد بدت هذه الحرب فى تفاصيلها -التى لا محل لذكرها ها هنا- معبِّرة عن جهد لتأديب «مرتدين عن الدولة»، أكثر منها محاولة لإعادة «مرتدين عن الدين» إلى حظيرة الإيمان. المبرر السياسى لحروب الردة كان مقنعاً من جميع الوجوه، فمن حق الحاكم أن يعيد لمّ شمل الدولة حين تضطرب، ويُخضع التخوم لسلطة المركز، كما فعل أبوبكر، لكن ذلك أمر وتغطية الحرب بتهمة «المروق عن الدين» أو الردة عنه أمر آخر، حيث لا تعدو كونها محاولة لتمرير أهداف سياسية بغطاء دينى.
الظهور الرسمى لمصطلح «الزندقة» داخل القاموسين السياسى والدينى العربى ارتبط بظهور الدولة الأموية، وتوسع وانتشر بعد استشهاد الحسين بن على فى معركة كربلاء الشهيرة. اتهم المتشيعون لأهل بيت النبى الأسرة الأموية بالمروق من الدين، وأنهم ورثوا الإسلام ولم يؤمنوا به، وقابل الأمويون هذا السعى بلصق التهمة بمن ابتدعوها، وبمرور الوقت أصبحت «التهمة المتبادلة» أحد أسلحة الصراع السياسى بين الأمويين ومعارضيهم من الشيعة أو الخوارج. ولم يألُ حكام بنى أمية جهداً فى نعت معارضيهم، على اختلاف أطيافهم بالزندقة، وتأديبهم بكل الوسائل الممكنة، بما فى ذلك مَن اشتهر منهم بالعدل والحلم، مثل عمر بن عبدالعزيز الذى يذكر ابن كثير نقلاً عن ابن مبارك عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال: «ما رأيت عمر بن عبدالعزيز ضرب إنساناً قط إلا إنساناً شتم معاوية فإنه ضربه أسواطاً».
لم يكن عمر بن عبدالعزيز -شأنه شأن كل حكام بنى أمية- يؤمن بالمعارضة السياسية، ويجيد مثلهم أيضاً تحويل الصراع السياسى إلى صراع دينى، وهو أمر اجتهد فى التأصيل له فقهاء ومؤرخو أهل السنة. يذكر «ابن كثير» -على سبيل المثال- أن بعض السلف قال: «بينما أنا على جبل الشام إذ سمعت هاتفاً يقول من أبغض الصدّيق فذاك زنديق، ومن أبغض عمر فإلى جهنم زمراً، ومن أبغض عثمان فذاك خصمه الرحمن، ومن أبغض علياً فذاك خصمه النبى، ومن أبغض معاوية سحبته الزبانية إلى جهنم الحامية يرمى به فى الحامية الهاوية»!.
فى عهد يزيد بن معاوية مثلت «الزندقة» التهمة الجاهزة التى استخدمها أنصار «أهل البيت» فى مواجهته، فاتهموه بالمروق من الدين، وبرروا ذلك بالجريمة المنكرة التى ارتكبها، عندما قتل جنوده الحسين بن على، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورغم اعتراف بعض مؤرخى أهل السنة بتمكن العديد من المثالب الأخلاقية من شخصية «يزيد» فإنهم نفوا عنه تهمة الزندقة، واتهموا بها الشيعة الذين يوجهونها إليه، وبالغوا -إلى حد الشطط- فى ذكر حرصه على الصلاة والصيام ومكارم الأخلاق، وركزوا فى هذا السياق على روايات نقيضة تؤكد حسن أخلاق الخليفة الأموى الثانى. وهكذا بدت تهمة الزندقة منذ ظهورها وكأنها «سلاح سياسى» يستخدمه الخصوم المتصارعون على الحكم فى تشويه بعضهم البعض.