هناك نفوذ قوى تمارسه الآداب والفنون للتأثير على الرأى العام، وهو ما يُطلق عليه القوة الناعمة، وهى عنصر أساسى فى تغيير الأفكار والتلاعب بالعواطف، وهى أمور تتم كلها دون أى استخدام للقوة المادية.. والمهرجانات السينمائية هى أحد أوجه القوة الناعمة لأى دولة، بوصفها أحد أسلحة التعبير عما وصلت إليه تلك الدولة من تقدم فنى أهلها لأن تكون قِبلة لاستقدام وجذب الآخرين لعرض فنونهم والفرح بالفوز بجوائز تلك المهرجانات التى تتحول إلى ماركة مسجلة للدولة المضيفة ومعبر عن تقدمها ورقيها وثرائها الثقافى.
أى مهرجان للأفلام السينمائية بأنواعها المختلفة هو حدث فنى مهم.. عام 1932، كانت فينيسيا الإيطالية هى أول مدينة استضافت مهرجاناً سينمائياً، وكان فيلم «دكتور جيكل ومستر هايد» هو أول فيلم عُرض فى تاريخ المهرجانات السينمائية.. وبعد ثلاث سنوات حذت موسكو حذوها، وزاد عدد المهرجانات، وأهم تلك المهرجانات الآن هو مهرجان «الأوسكار» الأمريكى، وله جائزة سينمائية تعادل موضوعياً جائزة نوبل فى الآداب مثلاً.. وكذلك مهرجان «كان» الفرنسى، وبه منافسات لكل أنواع الأفلام السينمائية.. ومهرجان «برلين» الدولى وجائزتا الدب الذهبى والدب الفضى الشهيرتان.. ومهرجان «تورونتو» السينمائى الدولى، الذى كان قبل هذا الاسم يحمل اسم «مهرجان المهرجانات»، لأنه كان يعتمد فى السابق على عرض أفضل الأفلام التى شاركت بالفعل فى مهرجانات سينمائية أخرى، وهو مهرجان فريد من نوعه لأنه بلا لجان تحكيم أو جوائز، باستثناء جائزة واحدة تعتمد على تصويت الجمهور.
فى دورته الثانية منذ أيام، ظهر مهرجان الجونة السينمائى الدولى، ودون سبب واضح، بشكل مبهر مفرغ من المضمون.. فإذا حاولت القراءة عن المهرجان فستجد القضايا التالية ومثيلاتها قد طلت برأسها:
فلان أول يقول إن فكرة المهرجان هى فكرته ومسروقة منه، وفلان ثانٍ يرد عليه ويفند مزاعمه.. طلاق إحدى الفنانات بالمهرجان.. زواج فنان آخر من سيدة عربية على أحد شواطئ الجونة.. لقطات رومانسية لفنان وزوجته فى المهرجان.. الفنانة صاحبة فستان الافتتاح المثير تقول انتظرونى باللون الأحمر فى الختام.. إطلاق اسم فنانة على أحد شوارع الجونة.. موقف محرج لفنانة فى المهرجان.. صور الفنانين على السجادة الحمراء.. الصور الأولى لفستان فلانة فى المهرجان.. زوجة فلان تخطف الأنظار.. فلان وعلانة: الزوجان الأكثر بهجة فى المهرجان.. شاب يفاجئ فتاة بخطبتها على السجادة الحمراء فى مهرجان الجونة.. أفضل وأسوأ عشر إطلالات للنجوم فى مهرجان الجونة.
لم تكن منافسة فنية إذن، بل صراعاً لأزياء غريبة، ومعركة لأجسام ممشوقة، وهذا موجود فى كل مهرجانات العالم لكنه يسير جنباً إلى جنب مع أخبار الأفلام المشاركة وتقديم النقد الفنى العلمى لها وإلقاء الضوء عليها والترويج لها، لأن المهرجان، وكما يبدو من اسمه ليس لعرض الأزياء.. وهذا بالمناسبة ليس ذنب المهرجان وحده، ولكنه كما هو واضح المحتوى الذى يملكه معظم المشاركين... فى مهرجان الجونة السينمائى حضر كل شىء.. وغابت السينما.