يعتقد البعض أن عبارة «الغل الطبقى» «طريق واحد»، أى إنها موجهة من قاعدة الهرم إلى أعلاه، وهذا اعتقاد خاطئ. ويتصور البعض الآخر أن المغلولين هم فقط مَن ينظرون إلى الأيسر حالاً والأرحب رزقاً والأوفر حظاً، لكنه تصور يجانبه الصواب.
وقد فقد الرجل المحترم المتزن صوابه، إذ فجأة فى النادى العريق الأنيق، وانفجر فى مجموعة من النادلين الذين كانوا يتجاذبون أطراف الحديث والنكات بصوت جهورى فى كافيتريا النادى. انفجار الرجل تمثل فى توجهه إليهم وقوله بغضب ولكن دون أن يرتفع صوته: «أنا طول النهار فى الشغل، وجاى هنا علشان أشرب فنجان شاى وأريح أعصابى. مش معقول يكون المكان اللى بادفع فيه اشتراك فى مقابل خدمة مميزة ورقى فى التعامل يكون سبب إضافى فى تعاستى. أنتم هنا لتأدية عمل بمقاييس رواد المكان وليس بمقاييسكم».
لحظات من الصمت الملتهب أعقبت حديث الرجل. تبادل النادلون النظرات المتراوحة بين الصدمة والغيظ والغضب. ثم نظروا إلى الرجل وكأنهم ينظرون إلى كائن غريب. انصرف الرجل. وانقسم أرض الملعب إلى فريقين: النادلون بالغوا فى رفع أصواتهم أكثر، وبدأوا يسخرون من الرجل سخرية لاذعة. بعضهم اعتبره «مجنون» يسكن كوكباً غير الكوكب، والبعض الآخر نعته بالطبقى الذى يستعرض عضلاته على الغلابة، لكن الفريق أجمع على أن كلامه والعدم سواء.
الفريق الآخر هو بقية الأعضاء الذين شهدوا الموقف والذين أجمعوا همساً على أن الرجل تحدث بما يدور فى داخل كل منهم، لكن لا يجرؤ على المجاهرة به. هم يدركون إنهم أقلية. ويعرفون كذلك أن أى ملحوظة يقولونها أو شكوى يتفوهون بها جراء تصرفات النادلين أو العمال أو السياس ستتم ترجمتها على إنها «منظرة» و«طبقية». وجميعهم كذلك يعلم أن الموقف الذى حدث أمامهم لو جرى فى مكان آخر غير أسوار النادى، لتحول إلى معركة حامية الوطيس، بل ربما تسال فيها دماء الأقلية.
الأقلية فى مصر التى يمكن وصفها بـ«بقايا المتمسكين بتلابيب قواعد الأخلاق وليس مقاصد الشريعة»، و«ما تبقى من قيم وسلوكيات تتعلق بما يصح وما لا يصح وليس بالضرورة الحلال والحرام»، وما يدور فى فلك المفاهيم المنقرضة من «مساء الخير» و«شكراً» و«متأسف» تحمل غلاً طبقياً هى الأخرى. وهو غل يسير نحو القاعدة الرابضة فى متلازمة قائمة على فكرة ملتوية لكن مريحة تربط بين تدنى الأخلاق والفقر، وانعدام السلوكيات والغلب، وضيق ذات اليد والبلطجة، وتدنى مستوى المعيشة وفرض الجباية واستمراء التسول.
وقد سولت لى نفسى أن أكتب فى هذا الشأن رغم ما يحيط به من ألغام اتهامات «ماحاساش بالناس» و«القهر يعمل أكتر من كده» و«رايحة بينا على فين يا مصر يا داهسة الغلابة؟!»... إلى آخر المنظومة المعروفة.
المنظومة المعروفة والمعزوفة المأزومة التى ابتكرت مدرسة فكرية جديدة تجعل من سوء الأوضاع الاقتصادية حجة لتفشى الفوضوية والعشوائية والتى تحمل جزءاً لا يستهان به من ملامة ما وصلت إليه أوضاع الشارع من بلطجة وتدنى سلوك ترتدى دائماً وأبداً قناع الفقر والغلب. صحيح أن الضغوط الحياتية تؤثر سلباً على التصرفات والمعاملات، لكن الوضع الذى وصلت إليه التصرفات من انفلات كامل والمعاملات من عنف بالغ لا يمكن تبريره بالفقر.
الفقر الأكبر الذى نعانى منه يكمن فى مُعلمة دخلت الفصل ولم تتطرق إلا إلى ضرورة أن ترتدى بنات الابتدائى طرحة بيضاء، وفى الخطيب الذى لم يتناول فى خطبته سوى قواعد دخول المسجد وطريقة الخروج منه، وفى «عالِم» أفتى بأن ترضع الموظفة زميلها خمس رضعات حتى تكون خلوتهما فى العمل شرعية، ثم جاء «عالِم» آخر يهدئ من روع المنزعجين فأوضح أنه لا يجب أن ترضع الموظفة زميلها من صدرها، لكن أن تضع له اللبن فى فنجان ليشربه، وهلم جرا.
وجرت العقود الأربعة السابقة فى مصر بما لا تشتهى أبجديات التقدم أو التطور أو التنور، فوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من فقر، لا فقر الجيب لكنه فقر الأخلاق والسلوكيات وأبجديات المعاملات.
نعم، الغل الطبقى صار «رايح جاى». هؤلاء يحملون غلاً تجاه أولئك لأنهم أفضل حالاً فى معيشتهم. وأولئك يحملون غلاً تجاه هؤلاء لأنهم أفسدوا عليهم معيشتهم. الطريف أن هؤلاء وأولئك ضحايا أوضاع اقتصادية بالغة الصعوبة، وإن كانت بدرجات متفاوتة.