كان الرئيس السادات (رحمه الله) يصف خصومه أيام أزمة مايو 1971 بالغباء السياسى. بعد وفاة عبدالناصر نظر رجال الدولة الموروثة عن «ناصر» إلى السادات كرئيس مؤقت، وأن إحاطتهم به من كل الاتجاهات كفيلة بالتخلص منه فى التوقيت الذى يحددونه. وعندما احتدم الاختلاف بين الطرفين بادر من أطلق عليهم السادات «مراكز القوى» إلى تقديم استقالة جماعية من مواقعهم كمسئولين بالدولة. اعتبر «السادات» هذه الخطوة نوعاً من الغباء السياسى، لأنهم خلصوه من عبء كبير، وبادر إلى قبول استقالاتهم. حسبة خصوم السادات وقتها كانت خاطئة، فقد ظنوا أن الشعب سينزل إلى الشوارع من أجلهم كما نزل لعبدالناصر عندما تنحى، لأنهم اعتبروا أنفسهم حراساً لـ«الميراث الناصرى»، الذى يريد السادات التخلص منه، وأن الشعب سينزل مدافعاً عن استمرارهم ومطالباً بالتخلص من السادات بمجرد أن يعرف بأمر استقالتهم. حسبة غبية ولا شك!
الغباء السياسى حالة تنتاب الشخص المسئول عندما يقدم على خطوات غير محسوبة، أو يراهن على أطراف لا يفهم تحركاتها جيداً، أو يتعشم فى تكرار ظروف خدمت من قبل غيره لتعمل من جديد فى خدمته. الحساب السياسى يعنى البحث المتأنى فى جدوى القرارات وكلفتها والنتائج التى يمكن أن تترتب عليها. جزء من الحسابات السياسية الناجحة يرتبط بالوعى بأن مواقف الأطراف المختلفة متحولة ومتغيرة، لأن أى طرف ذى صلة بأزمة يتحرك تبعاً لما تمليه عليه الظروف وحسابات المكسب والخسارة، وليس طبقاً للمبادئ. والظروف متغيرة من زمن إلى زمن، والتاريخ لا يعيد نفسه.
كتب التاريخ تحكى لنا قصة «المستعصم بالله» آخر خلفاء الدولة العباسية. تولى «المستعصم» الحكم وعمره 30 سنة وبضعة شهور. وضع الخليفة الجديد ثقته كاملة فى وزيره «ابن العلقمى»، وكان الأخير على اتصال بالتتار الذين كانوا يشكلون تهديداً وجودياً للدولة العباسية. طمأن «ابن العلقمى» أميره بأن كل شىء على ما يرام، وأنه ببعض المال الذى يدفعه للتتار يستطيع أن يحتفظ بدولته وبحكمه ويأمن شرهم. استجاب الخليفة «المستعصم» لوزيره، وعمل بنصائحه وسخره «ابن العلقمى» كأداة استطاع أن يتخلص بها من كل خصومه من الأمراء والوزراء. كان الخليفة يسخو من حين إلى آخر على رعيته، لكنه ترك البلاد نهباً للفساد الإدارى، بسبب السلطة المطلقة التى منحها لـ«ابن العلقمى». لم يكن الخليفة الشاب يعلم أن وزيره جاسوس لألد أعدائه. يذهب كتاب التاريخ إلى أن «ابن العلقمى» كان السبب المباشر لسقوط الملك العباسى. وهو سبب تافه ولا شك قياساً إلى عوامل موضوعية كثيرة ومتراكمة كانت تؤذن بقرب السقوط، لكن تجارب التاريخ تقول إن «الأسباب التافهة» أحياناً ما تحرك الأمور أكثر من الأسباب الكبرى. والحكمة العربية تقول «عظيم النار يأتى من مستصغر الشرر». كان «ابن العلقمى» مجرد شرارة صغيرة تعبر عن الحريق الكامن داخل الدولة العباسية.. وكان الغباء السياسى هو عود الثقاب الذى أشعله.