من المؤسف أن يشيع ويستشرى القبح المادى والمعنوى حتى يصير صناعة، لا يلتفت صناعها إلى ما فيها من دمامة!
لا تدرى حين تجيل نظرك فى ربوع بلادنا، وفى أحوالها، كيف ومتى فارقنا صناعة الجمال التى بدأ أسلافنا فى الاهتمام بها منذ زمن، بتجميل ما استطاعوا تجميله فى البلدان والأحياء والمرافق والحدائق، برغم الاحتلال وضيق الإمكانيات، مع اهتمام إلى آخر مدى باحتضان القيم النبيلة وبثها للأجيال فى الأسر وفى المدارس والمعاهد والمعامل والمصانع والجامعات.. لا أدرى متى وكيف جعل «القبح» يتسلل إلى بلادنا وحياتنا.. فحب الجمال طبيعة إنسانية، ومجافاة القبح طبع إنسانى أيضاً.. ربما بدأ الداء الذى استشرى بفقدان الانتباه والإحساس بالقبح الذى جعل يتسلل شيئاً فشيئاً حتى صار واقعاً ضخماً يكاد يطاول الجبال، فلما طال التعايش معه حلت العادة محل النفور، وصرنا لا نحسه وربما قبلناه واستسغناه وامتصصناه وعدنا فأفرزناه.
القبح المادى
ربما كان القبح المادى هو الأسهل فى التعامل معه وتفادى أسبابه وعلاجه، فلا عليك إلاّ أن تحيى القيم الجمالية التى كانت تدرس فى المدارس وتطبع على الأغلفة الخلفية للكراسات وتلقى مع الأناشيد وتحية العلم فى طابور الصباح، وأن تؤدى الأجهزة المحلية التى ترهلت وفارقت منذ زمن بعيد ما كانت تنهض به فى صمت وبلا افتعال ولا ضجيج: الشئون البلدية والقروية، وأن نهتم ببث القيم الجمالية فى إصداراتنا الإعلامية والثقافية، وتكريسها فى عاداتنا السلوكية.. وحماية الأماكن النادرة! - التى ما زالت تحتفظ بجمالها أو ببعض جمالها الذى كان حمايتها من زحف القبح وأكوام القمامة والقاذورات، وضمان متابعة جادة للسلوك الذى يشذ عما تستلزمه المحافظة على القيم الجمالية ونظافة بلادنا.
القبح المعنوى
على أن القبح المعنوى آفته وأمره أثقل وأمض.. لا يتوقف هذا القبح عند محض «الصور» المرئية أو المسموعة التى تطالع عيوننا أو تصافح آذاننا دون أن تحرك فينا نفوراً حين نراها فى الفوضى والقذارة وفى العشوائيات والطرقات والمرافق ومقالب القمامة وغيرها، وإنما ما أعنيه بالقبح المعنوى هو ذلك المتمثل فى مجافاة قيم الصدق والبر والأمانة والزهد والوقار والأدب والإخلاص والجدية والطهر والعفاف والاستقامة والشفافية.. هو ذلك القبح المتمثل فى انحراف السلوك الذى تفشت معه لغة القذف والشتم والسباب، وتدنّت لغة الحوار، وصار الصوت العالى البذىء هو حصن صاحبه الذى يحميه من الحساب، ويقيه مغبّة مسئولية ما يصدر عنه من جنوح، ومع هذا التفشى تراجعت كثير من القيم، واشرأب بيع الذات والنفاق والرياء والتزلف والمداهنة، وإنكار الحق والتيه بالقوة والسلطة والجاه أو بالبذاءات وطول اللسان، والاستقواء على الفقراء والضعفاء.. وشاع استسهال الكذب والتفاهة والسطحية والمواراة والفهلوة والديماجوجية والانحصار المريض فى انحيازات الذات وفى شهوات ومآرب النفس.. وفى انعدام الإحساس بالأغيار والافتئات عليهم.. فى اختلال لغة الخطاب وتفشى العربدة والانتهازية وضلال الكلمة والجرى وراء أطماع الذات والانتصار لها مهما جمحت أو اختلت ولو كان من بعدها الطوفان!
تسمم الهواء
حين ذلك يتسمم الهواء نفسه، ويستحيل على الناس أن يتنفسوا هواءً نقياً.. وتخيم مظاهر القبح وسُحُبه وأنفاسه على الحياة، فتضطرب الرؤية مع الإحساس الممض بالاختناق!
قد لا يُعنى مرضى القبح، وهذا هو الغالب، بعلاجه فيهم، ولكن الأدهى أن تفوت ملاحظته والالتفات الجاد إليه على المتعاملين معهم أو المحتكين بهم.. مؤدى ذلك أن يصل الانحراف إلى غايته، وأن يحقق بالخديعة والمكر والوصولية والمداهنة، ما لا يتحقق للفضيلة ومكارم الأخلاق والسلوك.. سيادة القبح ونضوب القدرة على ملاحظته، نذير شؤم يعدم الأمل فى الإصلاح الذى يعتبر الإنسان ذاته وسيلته وأداته الفاعلة!
واستساغة القبح، وعدم الالتفات إليه، هبوط فى الطاقة الروحية للآدمى، يتسلل تدريجياً وبحكم الاعتياد فيحتل مجمل الصورة وحنايا الشعور.. والتبرير من وسائل إخفاء عدم الالتفات للقبح، والتبرير الذى أعنيه كذب ولكن فى اللا وعى، يصنفه علماء النفس فيما يسمى «بالحيل والآليات الدفاعية»، لأنه كذب على النفس ومداراة لما لا تحب أن تواجه نفسها به.. فتحتال لتبريره باختلاق التعلات والمعاذير.. حتى تجد للقبح أو للخطأ مبرراً.. وتبرير الخطأ إغراق فيه يغلق كل أبواب أو منافذ الشفاء منه!!
الطاقة الروحية
وسط هذا الحصار الذى يمتص القبح ويفرزه، وينصرف عن صناعة الجمال، تبدو الطاقة الروحية هى الملاذ.. هى الإكسير الذى نَعْبُر به إلى ما كانت مصر عليه من تقليم القبح وزراعة الجمال.. هذه الطاقة هى قوام الأوطان، وأساس الإحساس العميق الفاعل بالانتماء.
من عبقرية مصطفى كامل أنه أدرك أن حب الوطن فرع على الارتباط به، وعشق ما فيه.. بين خصوبة الانتماء وجمال الوطن علاقة طردية.. من عباراته المأثورة التى أيقظ بها البعث الوطنى: «لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً!». «يقول الجهلاء إننى متهور فى حب مصر، وهل يستطيع مصرى أن يتهور فى حب مصر؟! إنه مهما أحبها فلن يبلغ الدرجة التى يدعو إليها جمالها وجلالها وتاريخها والعظمة اللائقة بها. ألا أيها اللائمون انظروها وتأملوها وطوفوا بها، واقرأوا صحف ماضيها واسألوا الزائرين لها من أطراف الأرض، هل خلق الله وطناً أعلى مقاماً، وأسمى شأناً، وأجمل طبيعةً، وأجل آثاراً، وأغنى تربةً، وأصفى سماءً، وأعذب ماءً، وأوعب للحب والشغف من هذا الوطن العزيز؟!. اسألوا العالم كله يجيبكم بصوت واحد إن مصر جنة الدنيا، وإن شعباً يسكنها ويتوارثها لأكرم الشعوب إذا أعزّها».
مهمة وطنية مجتمعية
مقاومة القبح وزراعة الجمال والبهاء، مهمة وطنية مجتمعية.. لا يغنى فيها أجهزة الوطن ما لم يتضافر معها المجتمع أفراداً وجماعات.. إن انتشار أى من القبح أو الجمال، كالأوانى المستطرقة، لا حدود فاصلة فيها بين العام والخاص.. لا فرق بين حديقة عامة وبين حديقة خاصة، ولا بين نظافة طريق ونظافة السكن وما حوله.. أى لوحة جمالية يتلفها ويفسدها «عقب سيجارة» أو «ورقة ملقاة» أو «مقلب زبالة» استقراباً وتهرباً.. لا أمل فى صناعة الجمال والمحافظة عليه ما لم نعالج مشكلة الزبالة والمخلفات.. هذه المعالجة تتطلب بدورها تضافراً بين العام والخاص، تنظيمٌ تتكفل به الدولة وآليات توفرها، وتجاوبٌ يتكفل به المجتمع بالاستجابة والتساند والكف عن العادات الذميمة التى أدمنت إفساد الجمال باللاوعى أو بالإهمال.. ترى دورات المياه العامة فى الدول المتحضرة أكثر نظافة ورعاية لحفظها للمترددين تباعاً عليها، من دورات المياه الخاصة فى بعض بيوتات الدول النامية، استعمالات دورات المياه علامة تحضر أو تخلف، كذلك الحفاظ على الحدائق من قطف وردة، أو قتل الخضرة أو إلقاء المخلفات، الأمثلة عديدة لا تقع تحت حصر، والقليل منها كاف للدلالة على الأثر الإيجابى أو السلبى للكثير، وكاف لتوكيد أنه لا أمل فى جمال الوطن الذى نعيش فيه إلاَّ بتضافر العام والخاص، كيما يعيش الوطن بجماله وبهائه فينا.. فى وجداننا، وفى صدق انتمائنا، والتضحية من أجله بكل مرتخص وغال.
الجمال والحرية
لقد أنعم الله على مصر بنعم تؤهلها لأن تكون جنة الله فى الأرض، وذلك رهين بتعانق الجمال والحرية.. فالجمال هو الوجه الآخر للحرية، وآية الانسجام فى المشاعر والعقول، وتناغم الحياة، هذا التناغم حصاد اختيارٍ واعٍ، وإرادة فاعلة مصممة.. ويوم يتم هذا التعانق، سوف نخرج من حصار القبح، إلى باحة الجمال والكمال.