كانت لى تجربة بهذه الجريدة الموقّرة وهى صفحة (مع ريهام). صفحة أسبوعية تعرض مشكلات إنسانية لأناس منا وحولنا، من جميع الأعمار ومن الجنسين، تجربة رائعة، بها أخذ وعطاء، كنت أعطى النصيحة التى أرتئيها بعد قراءة المشكلات بالوجدان والعقل معاً.
بالتوازى مع قراءتى لتلك المشكلات ومحاولة إيجاد حلول لها، كانت لدىّ مشكلاتى الخاصة، التى كنت أتناساها بالغوص فى مشكلات الآخرين، لأتعلم وأستفيد، وليثبت برأسى باليقين أن مشكلاتى إذا ما قورنت بغيرها فإنها لا شىء يُذكر، وبمبدأ المقارنة نفسه، فى كثير من الأحيان رأيت أن ما تحمّلته قد يلخص مشكلات عشرات الشاكين، استماعنا إلى بعضنا دوماً مفيد (لجميع البشر مشكلات وآلام وعذابات وصعاب).
أثناء قراءتى للرسائل، كنت أتحفّز وأتحمّس وأبكى وأضحك وأقلق، جربت جميع المشاعر الإنسانية مع القرّاء وتفاعلت معها، كانت إجاباتى بين النصح والتعنيف وتطييب الخاطر والتخطيط المنطقى البعيد عن إرباك المشكلات، الذى يتعرّض له من يكون فريسة مباشرة للهموم، فلا يرى المخرَج المناسب، ولو كان واضحاً جلياً أمام عينيه.
هذه التجربة الإنسانية الضخمة أعطتنى زخماً وثراءً إنسانياً كبيراً، لكنها أخذت من روحى طاقات كثيرة، ما بها من وجع ومعاناة زادنى شقاءً، ذاك الشقاء كان يزول ويُبدّد بتعليقات القرّاء والشعور الطيّب الذى تتركه مساعدة الآخرين، فأنت عندما تمد يدك إلى أخيك الإنسان، أنت بالحقيقة تساعد نفسك قبل أن تساعده، ذاك الرضا عن الذات والاطمئنان لطمأنتك الآخرين شعور غنى ومُرضٍ جداً، ذلك أن التواصل الإنسانى نعمة كبرى والإحساس بالآخر نعمة أخرى لا ينعم بها إلا من تمتّع بحب العطاء ورفع الأذى عن الناس ودفع البلاء.
يألم الجسد أحياناً ويتعب وتتعطل وظائفه، أما وهن الروح وضعفها وموت النفس فهو الأصعب دوماً، والدليل أننا نسمع عن أمراض مستعصية ومميتة ينجو منها المصابون بها لقوة إرادتهم وبأس عزيمتهم ونسمع أيضاً عن أصحاء وصغار بالسن تغتالهم الهموم وأوجاع النفوس ليموتوا قهراً وحزناً وألماً وقلقاً. فى اعتقادى أن ألم النفس يفوق ألم الجسد، عافانا الله من جميع الآلام.
توقفت صفحة (مع ريهام) منذ أكثر من عام، لكن لم يتوقف التواصل الإنسانى يوماً، ما زال الأصدقاء يسألون ويأنسون بالرد، وآنس أنا بمشاركتهم حياتهم، وبدورى عندما أتألم أذهب لمن أثق بمحبتهم ومؤازرتهم، فكلنا يحتاج إلى الآخر، هكذا خُلِقنا ليكمل بعضُنا بعضاً ونسهل حياة بعضنا البعض، لتهون المشكلات وتمر الأيام بسلام، حياة البشر قاسية، والدنيا جميعنا نشقى بها، لكن بصور وأساليب وطرق وقصص مختلفة. كلنا يحتاج إلى تلك المؤازرة والنجدة النفسية، وإلا انفجرنا غضباً واحتقَنّا تفكيراً وانزعجنا حيرة.
لا نحتاج دائماً إلى صفحات ورقية أو إلكترونية كى نتواصل، ونتعاضد ويساعد بَعضُنَا بعضاً، كل ما نحتاج إليه هو الشعور بالرغبة فى المساعدة والدعم والنجدة، والمحرك فى هذه المشاعر جميعاً هو الرحمة والشعور بالآخر ووضع الذات مكانه.
إن مثالية التواصل والتآخى والمساندة تصطدم دوماً بأنانية البخل واللامروءة والتخلى عمن يحتاجون إلينا.
فكما أن هناك بشراً يديرون أظهرهم لمن يحتاجون إليهم، ولو بالدعم النفسى، فهناك أيضاً من يقتله شعور العجز عن مساعدة الآخر، (فمع حبه للعطاء هو غير قادر عليه، أو ما يستطيعه أقل بكثير مما يتمنى تقديمه) كلا الصنفين موجود ونلمسه فى حياتنا يومياً.
هى طباع البشر المختلفة ومشكلاتهم وظروفهم وتفاعلاتهم تجاهها، كانت مثار الشجون رسائل ازدانت بها حقيبتى الإلكترونية على مواقع التواصل الإلكترونى، التى لم تعد افتراضية أبداً. هذه الرسائل تحمّسنى على تكرار هذه التجربة المهمة، ولو بطريقة أخرى، المهم أن يبقى التواصل الإنسانى والاجتماعى قائماً على أجمل وأنفع وأمتع صورة. قال تعالى فى كتابه الكريم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ». صدق الله العظيم (الحجرات: 13).