تحت عنوان: «حاكم من العصور الوسطى»، كتبت فى هذا المكان مقالاً عن موضوع القس الأمريكى أندرو روبنسون، المحتجز فى تركيا، الذى كان سبباً مباشراً للعقوبات الاقتصادية التى فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية عليها. قلت فى ختام هذا المقال: «كل ما أخشاه أن يجد أنصار أردوغان أنفسهم فى موقف لا يحسدون عليه، إذا فاجأهم بإصدار قرار إفراج عن القس الأمريكى، بل وقدم الاعتذار الواجب لواشنطن. ومثل هذا السلوك ليس بغريب عليه، فقد سبق وجعجع ضد روسيا أيام إسقاط الطائرة الروسية، ثم خرج بعد ذلك معتذراً لموسكو!. إنها طبائع الشخصيات الكاريكاتيرية التى تنتمى إلى عوالم ألف ليلة وليلة». هذا ما قلته بتاريخ 12/8/ 2018. لم يمض شهران حتى قررت محكمة تركية يوم الجمعة الماضى (12 أكتوبر) رفع الإقامة الجبرية عن القس الأمريكى وتخييره بين البقاء فى تركيا، أو العودة إلى الولايات المتحدة الأمريكية!.
نحن نعيش عالماً تحكمه المصالح وليس المبادئ. هذه حقيقة لم تعد محلاً للجدل. وأردوغان شأنه شأن كثير من حكام المنطقة لا تحركه المبادئ، كما يزعم، أو كما يروج له مناصروه. وخطبته التى طبل وهلل لها الإخوان قبل شهرين، التى رد فيها على العقوبات الاقتصادية الأمريكية بقوله: «إذا كانت لديهم دولاراتهم، فنحن لنا ربنا وشعبنا» كانت للاستهلاك المحلى والإقليمى ليس أكثر. فها هو أردوغان ينتهز أقرب فرصة سنحت له بعد فرض العقوبات ليسوّى فيها المسألة مع الأمريكان، ويعيد إليهم القس «روبنسون»، سبب المشكلة، ولن يفوته بالطبع أن يخرج على الشعب التركى وأنصاره فى العالمين العربى والإسلامى ليقول لهم: «ماذا بإمكانى أن أفعل، وأنا رئيس يحترم أحكام القضاء فى بلاده؟». إنه رجل يجيد ألعاب «الأرجزة السياسية»، ويعرف كيف يستفيد من المواقف والأزمات. موضوعياً يبدو «أردوغان» غير ملوم على ذلك، فهو رجل يبحث عن مصالحه، ويعرف كيف ينتهز الفرص من أجل تحقيق ما يريد، وهو فى الأول والآخر غير مهموم بأية عقوبات تفرضها أمريكا على تركيا، لأن الضرر الأكبر لها يصيب الشعب التركى، وهو من ناحيته يعرف كيف يتأرجز على من يعانون من أبناء شعبه!.
فى كل الأحوال يبدو أن الإفراج عن القس الأمريكى تم ضمن تحضيرات معينة تتم فى المنطقة على قدم وساق، تحضيرات تعد الولايات المتحدة الأمريكية المنظم الأول لها والمستفيد الأكبر منها، ومؤكدٌ أن بعض صبيانها بالمنطقة سوف ينالهم من الحب جانب، والفضل فى ذلك يعود إلى حماقات آخرين. مؤشرات عديدة تنبئ أن هناك صفقة تتجمع خيوطها فى الأفق، وهى الآن تمر بمرحلة حسم بعض التفاهمات المتعلقة بها. وكل ما تشهده المنطقة من أحداث متسارعة لا يعدو التحضيرات التى تستهدف دفع حكام المنطقة إلى القبول بكل تفاصيل الصفقة المتوقعة، وعدم الاعتراض على شىء منها. وعلى من يعترض أن يستعد لرفع «الحماية» عنه، وعلى وجه التحديد الحماية الأمريكية. هذه المسألة أصبحت مُعلنة، ولا تحتاج إلى تدليل.