قبل أسبوع، كان الرئيس بشار الأسد يتحدث خلال اجتماع للجنة المركزية لحزب البعث الحاكم فى دمشق، حين فاجأ المجتمعين بالقول إنه يعتزم «إعادة تأهيل بعض شرائح المجتمع السورى»، فى إشارة، على ما يبدو، إلى رغبته فى معالجة التوجهات العنيفة ونزعات التمرد التى ازدهرت خلال السنوات السبع الأخيرة، وساهمت فى تعميق الأزمة التى تشهدها البلاد.
لكن بموازاة ذلك، بدا أن الحديث عن إعادة تأهيل بشار نفسه أقرب للحدوث، إذ تروج تقارير نُشرت فى وسائل إعلام ومراكز بحوث مرموقة أن ثمة اتفاقاً وقع بين الرئيسين الأمريكى والروسى، خلال لقائهما فى هلسنكى، فى يوليو الفائت، على إعادة تأهيل نظام بشار الأسد.
لم يقر أى من الطرفين صراحة بمثل هذا الاتفاق، لكن ما حدث تالياً منذ تلك القمة المثيرة يصب فى تعزيز المعلومات ذاتها، إذ يبدو أن التطورات تتجه نحو تثبيت حكم بشار الأسد، بما يقتضيه هذا من إنهاء فكرة ما عُرف بـ«الثورة السورية».
عملياً، وبعد التدخل الروسى الحاسم، والمساندة الإيرانية الشغوفة، ودعم «حزب الله» اللبنانى، والميليشيات العراقية، بات النظام السورى يسيطر على مساحة كبيرة من الأراضى السورية، وتضاءل إلى أقصى حد ممكن الوجود «الداعشى» أو تحكم ميليشيات «الجيش الحر» فى مساحات معتبرة على الأرض.
فى شهر يوليو الماضى، صرح نتنياهو، بعد لقاء عقده مع بوتين، بأنه «لا توجد مشكلة فى تعامل إسرائيل مع نظام بشار الأسد»، معتبراً أن إسرائيل لم تعرف مشكلات مع «أنظمة الأسد» (نظامى حافظ الأسد ونجله بشار) على مدى أكثر من أربعة عقود، إذ لم تُطلق رصاصة واحدة فى هضبة الجولان.
يُعد ذلك إعلاناً حاسماً من الجانب الإسرائيلى بقبول إعادة تأهيل نظام بشار، وربما تفضيل إعادة التأهيل كحل ناجع مقارنة بمفاجآت سياسية أخرى غير محسوبة العواقب بالنسبة إلى الدولة العبرية، التى تنحصر متطلباتها إزاء الجبهة السورية فى محددات معروفة: الأمن، وإبعاد إيران، وغَل يد «حزب الله»، ونسيان قضية الجولان.
بذلك، يكون بوتين قد أجاب عن أسئلة إسرائيل، وحصل على درجة عالية فى امتحان تحييدها إزاء قضية تثبيت حكم الأسد، وهو أمر كان أصعب من إقناع ترمب بالأمر نفسه، إذ جاء هذا الأخير إلى هلسنكى مقتنعاً بذلك تقريباً.
ينظر ترمب إلى قضايا منطقة الشرق الأوسط من زاوية تجارية بحتة، ويبدو أنه لا يهتم باسم القادة المسيطرين على دول المنطقة بقدر اهتمامه بما ستحصله إدارته منهم من أموال ومكاسب مادية، وهو هنا لا يعبأ بالكثير من الرطانات الأمريكية التقليدية التى سبق أن حرص أسلافه على ترديدها فى شأن السلام والاستقرار والحكم الرشيد والديمقراطية وحقوق الإنسان.
يبقى بعد ذلك أن تركيا باتت أكثر اقتناعاً بضرورة بقاء نظام بشار الأسد، وهى فى ظل الضغوط الاقتصادية والسياسية التى تواجهها، باتت أقل رغبة فى تصدير المتاعب إلى دمشق، وأقل قدرة على التغاضى عن احتمالات محاسبتها بشأن تحويل حدودها المشتركة مع سوريا لمعبر مفتوح للمسلحين أو المهاجرين.
ولذلك، لم يكن مفاجئاً أن يرشح عن قادة أتراك أكثر من مرة قبولهم بإمكانية إعادة تأهيل نظام بشار، بعدما كانت أنقرة معول الهدم الأول والأكثر فعالية إزاء سلطته.
ويبدو أن تركيا لن تمانع فى بقاء بشار، إذا ارتبط ذلك بالحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، وعلى رأسها بطبيعة الحال السيطرة على النزعات الانفصالية للأكراد، وهى فى ذلك قد تكون أقرب للتعاون مع روسيا فى مواجهة السياسات الأمريكية الملتبسة فى هذا الشأن.
ومن الخليج، وردت إشارات جديدة تشير بوضوح إلى تغير جوهرى فى الموقف الخليجى إزاء حكم بشار، خصوصاً مع تطورات الحالة الميدانية، وصعود الآمال فى إمكانية تقييد العنصر الإيرانى، عبر تقديم حزم من الإغراءات لنظام بشار.
يقودنا ذلك إلى ضرورة طرح السؤال عن تأثيرات إعادة تأهيل نظام بشار على الحالة السياسية فى الشرق الأوسط، وهو أمر ستكون له تداعيات كبيرة على المستقبل الجيواستراتيجى للمنطقة.
أول أثر لإعادة تأهيل بشار يتمثل فى هزيمة مفهوم الثورة أمام مفهوم الإصلاح كحل لمشكلات المنطقة التاريخية.
فما حدث فى تونس ومصر واليمن والعراق وليبيا وسوريا سيعطى إجابة حاسمة عن سؤال الثورة: لا تصلح كحل لأزمات المنطقة.
ورغم أن تلك الإجابة لا تتضمن بالضرورة إيجاد الحل الناجع لتلك المشكلات، فإنها لا تُبقى بالضرورة سوى مفهوم الإصلاح صالحاً للطرح فى الوقت الحالى.
لقد أدى اندلاع الانتفاضات إلى فوضى وخراب، وتردٍّ اقتصادى، وانتهاكات مفزعة لحقوق الإنسان، وحروب أهلية، وترسيخ مواقع للإرهاب، وتهديد للسلم والاستقرار العالميين، وأزمات هجرة ولاجئين مفزعة ومكلفة، وتكريس لأوضاع أنظمة ذات نزوع استبدادى.
وبسبب القابلية الكبيرة للمنطقة للتأثر بالسياسات الخارجية، وخضوعها لحروب بالوكالة، وتدخلات متنوعة، لم يعد لإرادة شعوبها أى صلة بما سيحمله المستقبل من تطورات.
ثمة إشكال آخر لا يقل أهمية، إذ لا تكفى الموارد الاقتصادية المتوافرة والمنتظر توافرها فى بلدان الانتفاضات لتحقيق نقلات نوعية يمكن البناء عليها لتوطيد حكم أنظمة تتبنى آليات تداول سلمى للسلطة.
وبسبب توافق القوى المتكالبة على اتخاذ نقاط ارتكاز فى بلدان الانتفاضات صيانة لمصالحها وتحقيقاً لمطامعها، وبسبب اتجاهها إلى سبل تقاسم ومشاركة واحترام مناطق النفوذ ومساحاته، فى ظل اتقاء تداعيات الصدام، سيكون هناك محفز إضافى لقبول أنظمة لا تقبل المساءلة ولا تحترم مقتضيات الحكم الرشيد.
يبلور هذا صورة ما ستشهده دول الانتفاضات لاحقاً، وما يمثله عنوان «إعادة تأهيل بشار» من صياغة لمستقبل هذه الدول: الإصلاح الطوعى التدريجى البطىء، غير الخاضع لمساءلة فعالة أو تقييم للسياسات، فى مقابل مفهوم الإصلاح الجذرى المستند إلى إرادة الجمهور.
واستناداً إلى ذلك، سيكون من حق منطقة الشرق الأوسط أن تزهو من جديد بقدرتها على إدهاش العالم، فقد اندلعت الانتفاضات العارمة، وأدت إلى خسائر فادحة، وعاش العالم مشدوداً ومصدوماً على وقع التغيرات الدراماتيكية وأصوات القذائف وأنهار الدم، ثم جاءت النتيجة واضحة بلا أى مواربة: سنعيد تأهيل الشعوب!