«وَظَنُّوا أَنَّهُم مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا». فى لحظة معينة يصور الغرور لبعض البشر أن بمقدورهم السيطرة على معطيات حياتهم وحياة مَن حولهم، وأن فى مكنتهم فعل ما يريدون دون أن يصدهم عن ذلك أحد. تبدأ لعبتهم بإذلال الكبار وسحق الأقوياء، وعندما يحذرهم حكيم أو ينصحهم مجرب يقابلون نصحه بالسخرية، يظنون أن بيدهم مفاتيح المنح والمنع، والرحمة والعذاب، والحياة والممات، ثم تأتى نهايتهم على أيدى الصغار.
حكى لنا القرآن الكريم قصة «نمرود العرب» الذى حاجَّ إبراهيم فى ربه. توهَّم النمرود فى لحظة أن بمقدوره أن ينازع الله تعالى فى ملكه، ويرسم خرائط حياة البشر تبعاً لهواه، عندما قال له إبراهيم: «رَبِّىَ الَّذِى يُحْيِى وَيُمِيتُ» ردَّ عليه النمرود: «قَالَ أَنَا أُحْيِى وَأُمِيتُ» فردَّ عليه إبراهيم: «قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّىَ الَّذِي يُحْيِى وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِى وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ». ظل النمرود سادراً فى غيِّه لا يصده عن طغيانه شىء حتى أتاه الله من حيث لم يحتسب، فدخلت حشرة حقيرة إلى رأسه عبر منخاره، ويبدو أن دخولها أدى إلى إصابته بمرض دماغى فكان يصرخ لمن حوله طالباً منهم أن يضربوه بالنعال حتى يهدأ، وانتهى أمره موتاً بالنعال.
حكمة بالغة تنطوى عليها الآية الكريمة التى تشير إلى تلك القاعدة الإلهية البديعة: «فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا». فالاغترار بالدنيا يتسرب إلى المغرور وهو يرى قدرته على سحق الأقوياء والتلاعب بهم أنَّى شاء وكيف شاء، فتكون النتيجة أن يداخله إحساس بأن الصغار عليه أهون، فلا يتحسب لهم، ولا يفكر فى أى ضرر يمكن أن يأتيه من ناحيتهم، فيسحقهم بلا ترخُّص، وفجأة تأتى نهايته على يد أحد هؤلاء الصغار. فرعون موسى نموذج آخر لهذا الصنف من البشر. فقد كان ينظر باحتقار إلى نبى الله موسى، وكان يصفه بعبارة: «الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ». لم يكن موسى يشكِّل فى نظر الفرعون خطراً ذا بال، وكان الأخير يثق فى قدرته على سحقه فى أية لحظة، ولم يظن أو يتسرب إليه أى شك فى أن «موسى» هذا سيكون السبب المباشر لزوال ملكه. وعندما فرَّ موسى ومَن معه من بنى إسرائيل هرول فرعون وراءهم وكله ثقة فى القضاء عليهم جميعاً، فكانت النتيجة أن أغرقه الله فى مياه البحر، ونجاه ببدنه ليكون لمن خلفه آية، لكنَّ أحداً لا يتعلم.
البشر لا يتعلمون ولا يعتبرون. والدليل على ذلك النماذج المتكررة التى تتسكع فى دنيا الله لأناس يصور لهم غرورهم القدرة على السيطرة على كل شىء، فتفلت منهم الأمور على أتفه الأسباب. الله تعالى أشار إلى هذا الأمر فى خواتيم سورة إبراهيم. وفيها يخاطب الخالق الأعظم نماذج من هذا النوع بقوله تعالى: «أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ». الحياة تحتشد بنماذج عديدة لهذا الصنف من البشر الذين أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا.