أعترف أننى قد بذلت مجهوداً كبيراً لأتمالك نفسى.. وأتمكن من الإمساك بالقلم لأكتب هذه السطور.. فالحدث أقسى من أى كلمات.. ومهما بلغ خيالى.. لم يكن ليصل بى حين كانت تجلس أمامى فى قاعة الدرس منذ سنوات قليلة.. أننى سأنعاها اليوم.. بل لم يكن يتصور أحد أن تنتهى رحلتها القصيرة الهادئة فى هذه الدنيا بهذه النهاية البشعة..!
إنها تلك الطبيبة المهذبة هادئة الطباع.. الصامتة حتى تظن أنها لا تتكلم أبداً.. التى لاقت ربها صعقاً بالكهرباء فى حمام سكن الطبيبات بمستشفى المطرية التعليمى.. إنها تلك الشابة التى كانت تستقبل حياتها.. وترسم لمستقبلها الكثير من الخطط.. أجبرتها إحداهن أن تترك بلدتها الصعيدية وتسافر إلى القاهرة لدراسة زمالة طب الأطفال وحديثى الولادة التى أحبت دراستها.. حتى ماتت نتيجة لهذا الحب..!
الحادث أكثر مأساوية من أن نقضى وقتاً نشرح الأسباب التى أدت لحدوثه.. فروح بريئة رحلت عن عالمنا دون ذنب جنته إلا أنها قبلت أن تعيش فى سكن أقل ما يقال عنه إنه غير آدمى.. ولكنه قطعاً يجعلنا نشعر بالسخط الشديد مما نلاقيه جميعاً كأطباء منذ زمن.. حتى أصبح أمراً واقعاً لا نأمل حتى أن يتحسن.. المشكلة أن البعض الذى يستكثر على الأطباء أن يطالبوا بمقابل مادى مقبول يسمح لهم بعيشة كريمة.. أصبح يستكثر عليهم حتى أن يقيموا فى مكان يصلح لإقامة البشر.. ودون أدنى مقابل ولو معنوى يتيح لهم أن يصبروا على هذا الحال.. فلا تقدير لمجهودهم.. ولا شكر لما يقدمون أبداً.. لقد توسم البعض خيراً فى وزارة الصحة بثوبها الجديد حين أعلنت منذ فترة وعقب تولى الوزيرة الجديدة مباشرة أن هناك مشروعاً قومياً لتحسين بيئة العمل.. لقد انتظر الكثيرون أن يتحسن الطعام.. أو ينصلح حال الإقامة.. أو حتى يتم إقرار بدل العدوى الذى أصبح حلماً نرويه لأبنائنا.. ولكننا فوجئنا أن مفهوم هذا التحسن يتلخص لدى الوزارة فى أن تتم إذاعة قسم الأطباء والسلام الجمهورى فى الإذاعة الداخلية للمستشفيات كل صباح.. حتى إن مستشفيات عديدة لم تكن تمتلك إذاعة داخلية بدأت فى إجراءات تركيبها.. لإذاعة القسم والنشيد الوطنى!!
ثم أتى ذلك الإعلان فى الصحف عن مسابقة لاختيار أفضل تصميم لسكن الأطباء بالمستشفيات بين كليات الفنون الجميلة.. وكأننا نصر على اختراع العجلة فى كل مرة.. أو لا نعلم احتياجاتنا الأساسية التى ينبغى توفيرها ليصبح سكناً لائقاً.. ثم نكتشف بعدها أن الوزارة أدركت ما ينقص الأطباء حقاً.. فقررت شراء أجهزة للتوقيع فى الحضور والانصراف تعمل ببصمة الوجه!!
لا أعلم كم يتكلف تركيب إذاعة داخلية بكل مستشفيات الجمهورية.. ولا أعرف ثمن ذلك الجهاز الذى يوقع ببصمة الوجه.. ولكننى أعتقد أن تكلفة إذاعة داخلية واحدة كانت تكفى لإصلاح خمسين حماماً.. وثمن جهاز بصمة واحد يكفى لإنقاذ ألف طبيبة أطفال أخرى!!
لقد ماتت الزهرة اليانعة فى مقتبل عمرها.. ماتت ضحية للإهمال والفساد الذى يضرب تلك الوزارة منذ قديم الأزل.. ماتت لأن أحدهم لم يكلف خاطره بصيانة حمامات سكن الأطباء بالمستشفى ربما منذ نشأته.. لقد رحلت تلميذتى الشابة.. رحلت بعد أن أدت رسالتها بالكامل التى لم تكن ستستطيع أن تؤديها إذا ما عاشت مائة عام.. رحلت وقد «بصقت» على الجميع.. كباراً وصغاراً.. وهذا يكفى من وجهة نظرى.. رحلت وقد كشفت عوراتهم فى بساطة وهدوء كما عاشت طوال عمرها القصير.. فليرحمك الله يا بنيتى.. ولتنعمى بجنتك.. ولتدعى لنا بالرحمة فى دنيتنا.. فكلنا هالكون.. وأنت الناجية الوحيدة..!