لن أنسى ما حييت مشهد النهاية فى أحد الأفلام الأجنبية لزوجة اعتقل زوجها فى جزيرة بعيدة مع سجناء سياسيين ومنعت عنهم الزيارة تماماً، وعندما سمحوا لهم بها كان الحوار بين الزوجين كلمات قصيرة مبعثرة غير مفهومة بعد أن فقد السجين الرغبة فى الحياة أو الحديث لقسوة الوحدة فى السجن الانفرادى، إلا أن النظرات والعيون لعبت البطولة المطلقة فى الفيلم، خاصة فى مشهد الوداع الذى لم يكن أى منهما يعرف إن كان من الممكن أن يشاهد الآخر مرة ثانية أم لا، واستولت على أفئدة المشاهدين تلك النظرات، وقد تعجبت من بقاء هذه الصورة فى ذاكرتى لا أنساها إلا أن تجارب الحياة علمتنى أن الإنسان عندما تصل لقلبه أى رسالة صادقة تمس مشاعره فإنه من الصعب أن تختفى وسط باقى الصور.
وقد تعلمت يومها من الحوار الذى استمعت إليه أن هناك مشاعر تهاجم الإنسان ولا يستطيع أمامها أن يدافع عن نفسه، لأنه يدرك جيداً قوتها وضعفه، ويعلم نتيجة مثل تلك المنازلات، من هذه المشاعر الانتظار وآلامه والشوق واكتساحه لكل ما يمكن أن يتجرأ ويحاول مواجهته، ومن أجمل التعبيرات التى استمعت إليها ما قالته صاحبة فكرة هذه المقالة، وهى تتحدث عن الغائب الذى طال غيابه عنها (أتألم شوقاً إليه وكلما تخيلته وقد عاد إلىّ مرة أخرى أشعر بالسعادة تغمرنى حتى الخجل)، وعندما تعجبت من كلماتها أضافت (من لم يصل لأعلى درجات العشق لن يعرف معنى ألم الشوق ولا خجل السعادة!).
وعن تلك الساحرة أقول لكم إننى ما زلت أذكر ضحكتها الجميلة، التى تشعر أنها من القلب قبل الشفايف، جارتى فى زمن الطفولة، التى كانت تسبقنى وصديقاتى فى سنوات العمر بالكثير، فكنا نتمنى أن نصل لعمرها لنصفف شعرنا كما تفعل ونرتدى حذاءها ذا الكعب العالى، ونحاول أن نتهادى فى خطواتنا، فقد كانت ذات طلة مدهشة وعينين خلابتين لا تستطيع أن تصف لونهما ولا رسمهما، وكثيراً ما سألت ملاكى الحارس فى أحلامى إن كنت سأحصل على ما أريد عندما تصبح قامتى فى طولها وسنوات عمرى تساوى أيامها، وإننى سأملك ما لديها من أسلحة الحسن الفتاكة، فقد كنا ننتظر خروجها للطريق لنرى ونتابع ونتغامز بخبث ودهاء الأطفال كيف أنها تحصل على أكثر نسبة متابعة من المعجبين والحاسدين والحاسدات والمتمنين والمتأملين والمتحسرين على صعوبة الأحلام والأمنيات أو حتى لفت انتباه هذا الجمال النادر، ووسط أحلامنا الصغيرة رأينا الاستعدادات فى منزل فاتنة الحى للزفاف وبدأ سقف الأمنيات يعلو ويعلو للصغيرات، بعد أن رأينا صاحب الحظ يرتدى الزى العسكرى وتغنى له المطربة يوم الزفاف (يا أبوالشريط الأحمر)، وتكتمل الصورة بالشموع التى أشعلناها والثياب البيضاء التى ارتديناها تشبهاً بها وغطاء رأسها المزين بالورود واللؤلؤ يسير خلفها وكأنه يودع الطريق الذى طالما تهادت فوقه.
واختفى الجمال الساحر من بيننا راحلاً إلى بيت وحياة جديدة، وبعد شهور قليلة وجدنا مصر تنتفض والفرحة تغزو المنازل والقلوب والسماء والنيل والشوارع والأزقة والوجوه تتبدل والنظرات وقد ازدادت بريقاً والرؤوس ترتفع تنظر للسماء وتتابع، والقامات تطول والآذان تستمع بإنصات غريب لم نعتده وأجهزة الراديو فى المنازل والشوارع والعربات تذيع أغانى واحدة، بها حب ودفء وأشجان، رغم أن كلماتها كلها عن مصر فسمعنا (دولا مين ودولا مين دول عساكر مصريين) و(لفى البلاد يا صبية) و(عبرنا الهزيمة) و(المصريين أهمه)و(خلى السلاح صاحى) و(حلوة بلادى السمرا)، ومع هذا الزخم عادت جميلة الحى إلى بيت الأسرة وفى أحشائها أول طفل لها ينتظر معها عودة الحبيب، كانت تنتظر وأشواقها تظهر على ملامحها، والأمل يغمرها أن يعود مرة أخرى ليرى ابنته التى خرجت للحياة بعد أن تسلمت ورقة تفيد أنها أصبحت أرملة الشهيد البطل، يومها قالت لمن جاءوا للعزاء (أخشى أن ينسانى فهو الآن مع الحور العين)، وحتى الآن ما زالت تنتظر كما تقول ابنتها التى لم تر وجه البطل إلا فى صور ورقية تزدان بها جدران المنزل.