لا يمكن الفصل بين انتشار ظاهرة الإرهاب فى العالم العربى والإسلامى وأزمة العقل العربى؛ إذ يمكن التمييز هنا بين نمطين رئيسيين، الأول هو العقل التقليدى، والثانى العقل العصرى؛ إذ ما زال هناك خطاب تقليدى يتبناه مثقفون من اتجاهات فكرية شتى، وهو خطاب يبسط رواقه على مختلف جنبات المجتمع العربى. هذا الخطاب يخوض معركة شرسة مع الخطاب العصرى الذى يتبناه مثقفون من مشارب فكرية مغايرة. السمات الأساسية لهذا الخطاب التقليدى أنه يتشبث بالماضى، وهذا الماضى المختار المتخيل يختلف بحسب هوية صاحب الخطاب. وهو خطاب يهرب من مواجهة الواقع، ولا يعترف بالتغيرات العالمية، أو على الأقل يحاول التهوين من شأنها، أو يدعو بصورة خطابية للنضال ضدها، دون معرفة القوانين التى تحكمها. ومن سماته أيضاً: إلقاء مسئولية القصور والانحراف على القدر أو الضعف البشرى أو على الأعداء. وهو فى ذلك عادة ما يتبنى نظرية تآمرية عن التاريخ، وهو أخيراً ينزع -فى بعض صوره البارزة- إلى اختلاق عوالم مثالية يحلم دعاته بتطبيقها مثل إحياء نظام الخلافة، بغض النظر عن إمكانية التطبيق أو بعدها عن الواقع.
وهكذا، أصبحنا فى مجال العلم الاجتماعى، المهتم بالعنف والإرهاب لتحديد الأسباب وبيان استراتيجيات المقاومة، ليس أمام العقل التقليدى، ولكن أمام ما يمكن أن نطلق عليه «العقل الإرهابى». وبعد تأمل طويل فى مسيرة الإرهاب الذى تمارسه الجماعات المتأسلمة (أى التى ترفع زوراً وبهتاناً أعلام الإسلام والدفاع عنه)، على وجه الخصوص، التى يمكن أن يكون تنظيم «القاعدة» نموذجها الأبرز، ندرك أن «العقل التقليدى» هو الذى يمهد الطريق لنشأة «العقل الإرهابى» الذى يدفع صاحبه للعمل الإرهابى. وذلك لأن العقل التقليدى يتسم أساساً بأنه ينطلق من رؤية مغلقة للعالم.
ولا يمكن الارتكان للمنهج الاختزالى الذى يحصر أسباب الإرهاب فى الفقر أو القهر السياسى؛ وذلك لأن إرهابيين عديدين ينحدرون من أصول طبقية غنية، بالإضافة إلى أنه ليس كل مواطن عربى يخضع للقهر السياسى يمكن أن يتحول -هكذا ببساطة- إلى إرهابى. التفسير يكمن فى أن هناك جماعات تتولى غسيل مخ الشباب على وجه التحديد، وتمدهم برؤية تقليدية متزمتة للعالم. وإذا كان التعريف المعتمد لرؤية العالم يتضمن النظرة للكون والمجتمع والإنسان، فإن هذه الجماعات لديها نظرياتها وشروحها الدينية التى تنظر للكون والمجتمع والإنسان نظرات خاصة. وربما كانت نظرية «الحاكمية» التى تذهب إلى أن الحاكمية لله وليست للبشر، بالإضافة إلى تكفير المجتمع العربى والإسلامى، ونعت المواطنين بأنهم منحرفون عن مقاصد الدين الحقيقية، بالإضافة إلى الكراهية العميقة للأجانب باعتبارهم كفاراً وملحدين، وأنهم يشنون حرباً صليبية ضد دار الإسلام، مما يدعو إلى الجهاد ضدهم، هى الملامح الرئيسية لرؤية العالم التقليدية المتزمتة، التى تمثل المقدمة الضرورية لتشكيل «العقل الإرهابى».
وإذا كنا قد أكدنا أن العقل التقليدى هو الممهد بالضرورة للعقل الإرهابى الذى يدفع الشخص لارتكاب الأفعال الإرهابية على أساس أنها نوع من «الجهاد» فى سبيل الله، فإن هذا العقل التقليدى لا يمكن فهم مكوناته الأساسية بغير ردها إلى أصل واحد هو «الأصولية». ولا نستخدم مفهوم الأصولية هنا بالمعنى الإيجابى للكلمة، ونعنى العودة إلى المبادئ الأساسية للدين التى تتسم بالنقاء بعيداً عن ثرثرة الهوامش فى عصور الانحطاط، والتهافت الفكرى والجمود المذهبى للحواشى التى كتبت شرحاً للأصول، وإنما المعنى المقصود هنا هو الجمود العقائدى والتزمت الفكرى.