كنا صغيرين قوي لما ماما ماتت وسابتنا لوحدنا، بابا وتلات أطفال أكبرهم عنده 8 سنين، وأصغرهم أربع سنين، إحنا الأربعه ماكانش لينا غير بعض.
بابا كان صوته جمييييل، ورث صوته عن والده الشيخ محمود، اللي علم ولاد كفر على غالي - مركز منيا القمح، محافظة الشرقية - كلهم، التلاوة والذكر والإنشاد، قبل ما يتنقل القاهرة موظف في الأوقاف بوظيفة شيخ جامع.
عشان كده بابا كان له في الطرب والموسيقي، ودنة حلوة، وإحساسه مرهف، ونوازل الدهر صقلت مشاعرة، كنت فاكرة وأنا صغيرة إن بابا له في الموسيقي بس، لكن لما كبرت اكتشفت أنه كان بيرتل ويجود القرآن كمان زي جدي بالظبط.
وأنا صغيرة كنت اسمعه بيغني، كان يرجع بعد الشغل متسوق وشايل شنط الخضار وشيكارة البصل وكرتونة البيض، وماشي على مهله في مدخل العمارة العملاقة اللي ساكنين فيها والواقعة بين شارع سناء محيدلي وشارع بنغازي وسط البلد، مصراتة ليبيا، المدخل كبير لدرجة أقل صوت فيه بيتضخم مرات ويتسمع في أعلى الأدوار.
في يوم بعد المدرسة كنت قاعدة عند جارتي الفلسطينية رانيا اللي كانت كل يوم أبلة فايزة بتاعة الرياضة البدنية، والمسئولة عن الطابور وتحية العلم، تخرجها بره الطابور تضربها ظلما، اتهاما ليها أنها عاملة حواجبها!
أنا ورانيا كنا قاعدين عندها وسمعنا راجل ماشي بيدندن "كان لك معايا أجمل حكاية في العمر كله"، فجأة قالت لي:
- ششششش.. سامعة يا حنان، الراجل ده كل يوم يعدي في الوقت ده يغنى أنا بستناه كل يوم.
فأنا اتنفخت قوي وقلت لها بكل فخر ده بابا، مش هنسي نظرتها في اليوم ده أبدا، غيرة ودهشة وإحراج، خليط مشاعر غريب جدا.
كنت أقف مع بابا في المطبخ نغني مع بعض:
أنا: فحبيبة قلبك يا والدي نائمة في قصر مرصود.
يضحك عادل لأنى قلت له والدي.. مش ولدي، ويكمل ورايا:
- ستجوب بحارا وبحارا.
- وستبكي دموعك أنهارا.
- وسيكبر حزنك حتى يصبح أشجارنننننن... أشجاااارااا
كنا عارفين أنا وهو إننا بنتكلم عن ماما، بابا عاش بقية عمره ما اتجوزش غيرها، جاب بحارا وبحارا بجد.. و لف بلاد كتير.. لف بينا ولف من غيرنا، معظم بلاد الوطن العربي وبعض دول أوروبا، عمره ما حب غير أمي، ولا اتجوز غيرها.. حزنه وفقده ليها كل يوم كان بيكبر حتى أصبح أشجارا بجد.. أشجار اسمها محمد وأحمد وحنان.