فى عام 1972، كنا أطباء فى الامتياز، وكان الطعام فى سكن الأطباء فى مستشفى الدمرداش يسوء يوماً بعد يوم. وفى أحد الأيام جاءت وجبة الغداء وبها سبانخ مطبوخة و«حامضة»، وزاد بنا الغضب، فأخذنا أطباق الطعام وذهبنا لمدير المستشفى بالسبانخ، وقلنا له: هذا طعام الأطباء، وتخيل سيادتك كيف يكون طعام المرضى؟.. وانتفض الرجل وأخذ يوضح لنا حقيقة شروط طعام الأطباء، وهى الجودة العالية ونمرة (1) فى اللحوم والبيض والخضار والفاكهة... إلى آخره. واكتشفنا، فى تلك الأيام، أن هناك كارثة اسمها «المتعهد»، والموظف المسئول الذى يتسلم منه خامات الطعام، فهو يتسلم أسوأ الأنواع، ويتم حسابها بسعر نمرة (1) والفرق بالنص.. واكتشفنا أيضاً السرقة فى كميات الشاى والسكر التى تصل إلينا، وكنا نلاحظ أن التومرجيات يخرجن من باب المستشفى ويحملن «حلل» فوق رؤوسهن، والله أعلم ما بها من لحوم وخلافه.
وبعد شهور ذهبت لمستشفى «أم المصريين» لقضاء شهرين. والحق يقال، كان السكن رائعاً نظيفاً، والطعام كذلك، حتى أنه عندما نقص الأرز استُبدل بالمكرونة، وعندما نقصت اللحوم صرفوا لنا ربع كيلو لانشون، وكنا فى ضائقة المجهود الحربى، وكذلك كان السكن فى الدمرداش، سواء فى قسم الباطنة أو الأطفال أو الجراحة، نظيفاً ولا ينقصه شىء، ولكن بعد خمسة وأربعين عاماً تدهورت الأحوال حتى وصلت الأسبوع الماضى إلى حد الموت. ماتت الدكتورة سارة، ذات الاثنين والثلاثين عاماً، فى مستشفى المطرية التعليمى صعقاً بالكهرباء فى حمام سكن الطبيبات المتهالك، حيث السخان الكهربائى مكشوف الأسلاك. وجاء تقرير النيابة يؤيد حقيقة الصعق بالكهرباء، كذلك شهادة الطبيب الذى كشف عليها بعد وفاتها، ولكن وزارة الصحة صرحت بأن الوفاة طبيعية، ثم صرحت بتصريح آخر أغرب من الخيال، وهو «أن الطبيبة كانت زائرة، وليست على قوة المستشفى».
وبصراحة، أحاول أن أفهم مغزى هذا التصريح إلى الآن.. وهل إذا كانت على قوة المستشفى كان سبب الوفاة سيختلف، وهل لأنها زائرة فلا يهم كيف ماتت؟.. تصريح غريب ومريب ومُخزٍ، ويبدو أنه كان لا بد أن تموت الدكتورة سارة حتى تنكشف المآسى المسكوت عنها فى سكن الأطباء فى مستشفيات وزارة الصحة على مستوى الجمهورية. والمعروف أن الأطباء المغتربين مضطرون للمبيت فى سكن الأطباء، وليس من باب التوفير أو الراحة، وهكذا كانت الدكتورة سارة، وهى من محافظة المنيا.. ونطق الأطباء والطبيبات، بعد صمت طويل، لأنهم لا إدارة المستشفيات تستجيب لشكواهم، ولا نقابتهم تدافع عنهم، وقالوا فى كثير من المستشفيات على اختلاف المحافظات.. قالوا وأفاضوا.. الطعام تعافه الحيوانات، من مطبخ المستشفى، وإذا زاد عن الحد اشتروا من الخارج.. لا توجد أعمال صيانة للكهرباء، وأحياناً يقيمون فى سكن مظلم تماماً.. الحمامات قذرة، وبلا أقفال، والكابلات فى معظم الحمامات مفتوحة والأسلاك خارجة منها، والجميع معرَّض للصعق بالكهرباء.. الملاءات والفرش قذرة ومليئة بالحشرات، وتضطر بعض الطبيبات إلى أخذ الملاءات إلى المنازل لغسلها، وفى الصيف التهوية سيئة، والتكييفات -إن وُجدت- لا تعمل، والمراوح قليلة.. أما عن المياه فهى تنقطع أياماً كثيرة، والحيوانات -كالعرس والقطط- تشارك الأطباء والطبيبات فى السكن، وهناك أماكن لإقامة الأطباء يكون فيها عدد الأسرّة أقل من عدد الأطباء، حتى عوامل الأمن غير متوافرة، وتحدث سرقات لأجهزة الحاسب الآلى والتليفونات المحمولة، ولا تحقيق فى هذه الأمور.. فى سكن به ثلاثون طبيباً توجد دورتان للمياه، إحداهما لا تعمل. وتخيلوا الساعة الثامنة صباحاً عندما يستيقظ الجميع، كيف يكون الحال؟!.. غالباً لا توجد مياه ساخنة، والمياه باردة صيفاً وشتاء، والأسقف فى الحمامات مكسرّة، والأبواب كذلك.
وبالطبع لا توجد ثلاجات ولا تليفزيونات، ولا بوتاجاز لتسخين الطعام.. يقول أحد الأطباء: «مش طالبين أى ترفيه، كل ما نطلبه حمام وسرير على قدر من النظافة، ودولاب نضع فيه أشياءنا، وأبواب بمفاتيح»!! هذه أمنية طبيب بكل بساطة، وهكذا يحيا أطباء وطبيبات فى مستشفيات وزارة الصحة، وكل أملهم ومطلبهم سرير ودولاب وحمام نظيف وباب بمفتاح.. ولا داعى للكلام عن الأجور، فهى مصيبة أخرى. هكذا تُمتهن آدمية شباب أطباء وطبيبات حديثى التخرج فى سكن الأطباء، فكيف نطلب منهم أن يعملوا بجدية ويبذلوا الجهد فى سبيل المرضى ويتعاملوا معهم باللطف والإنسانية والابتسام.. كيف يحافظ الطبيب على كرامة المريض، وهو يعيش تحت سقف المستشفى بلا كرامة ولا إنسانية.. وإذا حدث أن أخطأ طبيب منهم -والخطأ البشرى شىء وارد فى كل الدنيا- أو إذا تعامل طبيب مع مريض بشىء من الغلظة، أو إذا زوّغ الطبيب وترك النوبتجية، تقوم قيامة الإعلام والتواصل الاجتماعى، وتُعلَّق له المشانق. وربما اضطرت الوزارة المبجَّلة لعقابه ورفته لإسكات الجميع.
وأخيراً يتساءل الناس: لماذا يهاجر الأطباء بلا رجعة، أو يهربون إلى دولة عربية، أو حتى أفريقية، أو بلاد الماوماو.. ولماذا يغير البعض المهنة، ويعمل فى البيزنس والمقاولات، ولا تفهم الوزارة إلى الآن سبب النقص الشديد فى الأطباء غير الأوفياء لوطنهم الذين يفرون هاربين، وبعد كل هذا: هل تكون وفاة الدكتورة سارة حادثة طارئة ليس لها دخل بتقصير وزارة الصحة؟ هل يُفتح هذا الملف المشين ونتوقع إصلاحه؟ هل توفر الوزارة بعض الأموال القليلة ليقيم الأطباء فى سكن نظيف آمن؟ أم ستمر الحادثة مرور الكرام وتذهب دماء الدكتورة سارة هباء؟ وتغسل وزارة الصحة يديها من دماء سارة بحجة أنها ليست على قوة المستشفى؟.. رحم الله الطبيبة الشابة شهيدة الإهمال.. ولك الله يا مصر.