«العرب ظاهرة صوتية».. هكذا وصف المفكر عبدالله القصيمى العرب فى كتاب بهذا العنوان. الكتاب صدر بعد نكسة يونيو 1967، التى داهمت المواطن العربى بعد سنين طويلة كان ينام ويستيقظ فيها على أنشودة: «أمجاد يا عرب يا أمجاد»، ويسكر فيها بخمر الكلمة التى لا تُعبّر عن واقعه المرهق والمتراجع، بل تأخذه بعيداً عنه، ليفيق فى النهاية على الكارثة. كتاب «القصيمى» أتى كتعبير عن حالة جَلد للذات والسخرية المرة من النفس بعد النكسة، لكنه كان يحمل توصيفاً لواحدة من السمات الأساسية التى تدمغ الشخصية العربية عموماً، وهى ذات السمة التى أدارت رأس المصريين بعد دخول العرب إلى مصر فجعلتهم يؤدون بنفس الطريقة المزرية، فعاشوا فى خيالات الأغانى والخطب العنترية والأناشيد القومية حتى استيقظوا على الهزيمة المرة.
العرب أقوام تعيش فى اللغة أكثر مما تعيش فى الواقع، لذا فقد اشتُهروا بالشعر أكثر من غيره من الأجناس الأدبية، لأن الشعر غناء. لديهم غرام خاص بفكرة الأسواق التى يتبارى فيها صناع الكلام فى «حلبة الكلام». ولست أجد حال الإعلام العربى فى اللحظة الراهنة بعيداً عن تلك الحالة التى عاشها العرب فى أسواقهم الأدبية مثل سوق عكاظ. أغراض الشعر العربى القديم لا تفارق كثيراً أهداف أى رسالة إعلامية عربية معاصرة. زمان كان الشعر مدحاً أو ذماً أو بكاءً للأطلال ولطماً عليها، أو غزلاً عفيفاً أو صريحاً، أو مناظرات وتبادلاً للسب والشتم فى ما عُرف بشعر «النقائض». لو أنك تأملت المشهد الإعلامى المصرى أو العربى المعاصر فستجد أننا لم نبتعد كثيراً عن تلك الأغراض. فالإعلام لدينا يتراوح بين المدح الذى يرفع أشخاصاً أو مؤسسات أو دولاً إلى مستوى التأليه، أو سباً وشتماً واتهاماً لآخرين بكل نقيصة، أو مناظرات يتبارى فيها طرفان فى الجعجعة اللفظية التى تتوه فيها الحقائق، أو بكاء ولطم على الأزمات والكوارث التى تتواتر فى حياتنا فتُفسد علينا أمرنا، وتشدنا أكثر نحو القاع. إنه إعلام الجهل وأنصاف الموهوبين.
صرخ العرب وهاج المصريون وماجوا بعد نكسة يونيو. ارتفعت أصواتهم وجلجلت حناجرهم بالحديث عن «المؤامرة» العالمية التى حيكت لنا، ورغم انتصارنا فى حرب أكتوبر 1973 لم يزل تفكير الكثيرين يأبى الخروج من مربع «المؤامرة». أشر إلى أى دولة عربية لا يفسر أهلها أزماتهم ومشكلاتهم بعيداً عن هذا المربع!. الجميع يتحدث عن المؤامرة، وواقع الحال أن العالم كله يتآمر على بعضه البعض، العرب أنفسهم يتآمرون على بعضهم!. وفى سيرك المؤامرات ينجح من يجيد اللعب على حمق خصمه. الآخر يتآمر على العرب، هذه حقيقة، لكنه ينجح بفضل الحمقى الذى يسهّلون له إنفاذ مؤامراته ويساعدونه بغبائهم على نجاحها. لا ينجح متآمر إلا بغباء أحمق. مشكلة العرب أن بلادهم لا تُدار بفكر مؤسسى، بل باجتهادات أشخاص، بسبب ميلهم إلى الفردية وبُعدهم عن الحكم القائم على المؤسسات. وترك الأمور فى يد أفراد يمثل رهاناً خطيراً على مستقبل أى أمة، لأن خطأ الفرد فى هذه الحالة قد يضيع أمة بكاملها. قبل أن يُجعجع البعض بالحديث عن المؤامرات التى يحيكها لنا الآخر، عليهم أن يستخرجوا المؤامرة التى تتسكع فى أعينهم.