يمكننا الآن بكل اطمئنان أن نعلن سقوط الإعلام العربى، بعدما ظهر لنا أن هذه المؤسسات الإعلامية الضخمة، التى تنفق عليها الشعوب العربية المليارات، وتخصص لها الموارد الضخمة، ويعمل بها عشرات آلاف المهنيين، وتملأ الدنيا وتشغل الناس، غير قادرة على الوفاء بمهمتها الأساسية.
ليست هذه هى كل الأخبار السيئة، بل ثمة المزيد، فتلك المؤسسات ذات الأسماء الرنانة، والمقار الضخمة، والصور الذهنية البراقة، والتى أخفقت بامتياز فى أن تكون مصدر اعتماد رشيد لجمهورها فى ما يخص التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحيوية، لعب معظمها أدواراً مأفونة فى تغييب الجمهور، وحرفه عن الاتجاه السليم، وإبقائه تائهاً معزولاً عن المعرفة أو المعلومة أو التحليل السليم.
لا تتعلق تلك النتيجة القاسية بمنظومة إعلامية محلية واحدة أو أكثر، بل إنها للأسف الشديد تستطيل وتتمدد لتشمل معظم ما يرد عبر الأثير وصفحات الجرائد والمجلات وتفاعلات «السوشيال ميديا»، فى المجال الإعلامى العربى.
لماذا وصلنا إلى هذه النتيجة القاسية؟
تبرز أنماط الملكية السائدة فى صناعة الإعلام فى العالم العربى كأحد أهم الأسباب التى قادت إلى الأزمة الإعلامية التى يعانيها الجمهور راهناً بامتداد المنطقة، إذ لا زالت الملكية العامة تهيمن على معظم المؤسسات الإعلامية الضخمة، التى تمتلك بدورها قدرات تأثير ونفاذ عالية، بحيث يمكنها أن تتحكم فى تدفق المضامين الإعلامية، وصبغها بطابعها.
تعرف دول العالم المتقدمة نمط الملكية العامة فى وسائل الإعلام بطبيعة الحال، بل إن نمط الملكية العامة فى تلك الدول تطور بدرجة كبيرة، ليحول تلك الوسائل إلى نسق «الخدمة العامة»، بما يحمله هذا المفهوم الأخير من استحقاقات تخص طريقة تشغيل تلك الوسائل، بحيث تبقى، بقدر الإمكان، محايدة وموضوعية ومتوازنة ودقيقة، لتقدم لجمهورها مضامين إعلامية مسئولة، ومعدة بطريقة احترافية، تضمن للمواطن حقه فى المعرفة والمعلومات الدقيقة، بما يُمَكّنه من تكوين الآراء واتخاذ القرارات بصورة رشيدة.
تمتلك كل دولة عربية، كبيرة أو صغيرة، نسقاً إعلامياً ضخماً من الوسائل المملوكة للعموم، والتى يمولها دافع الضرائب فى كل دولة، لكن للأسف الشديد، فإن تلك الوسائل تخطفها الحكومات، وتسخرها كأدوات دعاية، بعيداً عن دورها الطبيعى كوسائل إعلام، لتسهم بدورها فى التعمية والكتمان والاستخدام الدعائى المزرى لمصلحة السلطات الحاكمة، وليس من أجل المصلحة العامة.
مع مطلع تسعينات القرن الفائت، بدأت دول رئيسية فى المنطقة فى التفكير فى معالجة هذا العوار، عبر إطلاق منصات إعلامية محلية وإقليمية تابعة للقطاع الخاص، فى محاولة للحفاظ على الجمهور المحلى، فى ظل منافسة غير متكافئة مع وسائط إعلامية أجنبية بدأت فى البث باللغة العربية، واستطاعت أن تهيمن على قطاع من الجمهور، وأن تتحول إلى مصدر اعتماد رئيسى له.
لقد أنفقت دول عربية رئيسية أموالاً ضخمة، واستعارت نماذج عمل دولية مرموقة أثبتت نجاحها سابقاً، بل دخلت فى بعض الأحيان فى شراكات مع عدد من تلك الوسائل الدولية ذات السمعة الطيبة، لكن النتيجة لم تكن إيجابية.
فبسبب ارتهان تلك الوسائل الإقليمية الجديدة لنمط الملكية ذاته، وارتباط مموليها مباشرة، أو بشكل غير مباشر، بالحكومات، تحولت المنظومة الإعلامية الجديدة إلى نسخ معدلة من الصحف والتليفزيونات والإذاعات الحكومية، ورغم انطواء معظمها على كفاءات وإمكانيات قياسية، فإن توجهها السياسى ذا السمت الدعائى لم يُمَكّنها من تخطى عتبة الاحترافية، أو الاتساق مع المعايير الدولية الواجب اتباعها من أجل إنتاج مضامين إعلامية جيدة.
وعندما سعى بعض رجال الأعمال، أو المؤسسات الخاصة ذات القدرات المالية الضخمة، إلى دخول قطاع الإعلام، بغرض بناء مؤسسات إعلامية خاصة قادرة على المنافسة والفوز بثقة الجمهور واعتماده، فشلت التجربة بامتياز.
فلم يكن هناك مستثمرون إعلاميون بالمعنى الذى نعرفه فى المجتمعات الغربية، إذ تزدهر صناعة الإعلام فى الغرب لأسباب عديدة يأتى على رأسها وجود مستثمرين فى قطاع الإعلام، يطورون الوسائل والخدمات، وعيونهم على الجمهور، الذى يمنحهم الثقة ومعها الاعتماد والعوائد، فتزدهر أعمالهم، وتستديم وسائلهم، وهو أمر نعانى من غيابه فى عالمنا العربى.
فثمة رجال أعمال وشركات ضخمة تستثمر فى قطاعات خدمية وإنتاجية مختلفة دخلت إلى صناعة الإعلام بغرض اتخاذ نقاط ارتكاز سياسية واجتماعية، ومعظم هؤلاء كان مرتبطاً بصورة أو أخرى بمصالح سياسية حكومية، ومن ظهر لاحقاً أنه خارج تلك المنظومة، تم إقصاؤه والتضييق عليه.
لم يعد بإمكان مستثمرين جادين فى قطاع الإعلام العربى أن يستمروا فى العمل من دون إرادة ودعم أو غض طرف من السلطات الحكومية، وهو أمر تسبب فى ضمور الصناعة على مستوى التمويل الخاص.
بسبب العوار فى نمط ملكية وسائل الإعلام وتمويلها، تداعت قدرة المنظومة الإعلامية العربية على اختيار القصص التى تعرضها للجمهور بشكل احترافى، بحيث بات حجم المسكوت عنه أكبر بكثير من حجم المتاح قوله.
ليت الأمر اقتصر فقط على الحجب والتعتيم والاختيار المغرض للقصص والموضوعات التى يتم عرضها على الجمهور، لكنه امتد للأسف ليشمل طريقة عرض الموضوعات المتاح مناقشتها، وهو عرض لن يخرج عن خدمة مصالح المالك، أو الطرف الذى يجب أن يخدمه المالك، بشكل حوّل المضامين الإعلامية المقدمة إلى سلسلة من التشويه والاختلاق والتأطير المغرض.
لقد باتت المشاريع الإعلامية الإقليمية، المملوكة فى الأساس للحكومات العربية أو حلفائها، شبيهة إلى حد ما بوسائل الإعلام الدولية على صعد الإمكانيات التقنية وعوامل الجذب والإبهار، لكن محتواها للأسف ظل دعائياً، بحيث افتقد القدرة على الإقناع أو الفوز بثقة الجمهور.
على مدى العقدين الفائتين، برزت وسائل إعلام عربية، بنطاق بث دولى وإقليمى، واعتمدت أساليب أكثر احترافية ومجاراة لأنماط عمل الوسائل الدولية الكبرى، لكنها لم تستطع الصمود أمام أغراض التطويع السياسى، وضغط المالكين، فتحولت مع السنوات إلى منصات دعاية سمجة ومزرية، وفقدت اعتبارها، بل كادت أن تفقد عقلها.
ورغم أن «السوشيال ميديا» بدت مجالاً عصياً على التطويع الكامل والتسخير المطلق لمصلحة القوى المهيمنة، فإن نشاط «اللجان الإلكترونية»، وقوانين المنع والعقاب، والإفراط فى أنماط الاستخدام المسىء تكفلت بهدر إمكانياتها، وحولتها إلى مجال مسموم.
ولا عزاء للجمهور العربى.