كله على الله، كلمات بسيطة في كل مرة أسمع أبي يرددها أنظر إلى أخوتي وأنا أبتسم وأخبرهم بيقين أن من يهاتف أبي يسأله عني لذلك هو يردد تلك الكلمات، وبعد واحدة من تلك المكالمات نظرت إلي أبي قائلة "أكيد بيسألك عني"، لم يعلق على سؤالي واكتفى بالصمت إجابة؛ ليذكرني بالدرس القديم مجددا وهو أنه يأبى أن يجعل منى ومن حياتي الشخصية مادة للسخرية حتى ولو بإرادتي، فهمت الرسالة وفكرت مليا فى والدي ومدى قوته التى أسعفته بهذا الرد القاطع الحاسم البسيط الذى يلجأ إليه كلما حاول أحدهم التجاوز والتدخل في شؤوني والسؤال عن حالتي الشخصية.
هذه ليست المرة الأولى فقد عاش أبي رافضا أن يخضع أى منا أنا وأخوتي لضغوط قد تجعلنا عرضة للسخرية أوالتراجع عن مبادئنا وأحلامنا، وبالرغم من انتمائه إلى أصول ريفية استطاع أن يراعي عاداتهم وتقاليدهم بالاحترام والمشاركة لكنه يرفض أن تؤثر تلك العادات التى قد لا تناسب تربيته لنا على حياتنا أو نتبع مبدأ متأخر يجعلنا نتراجع خطوة للخلف، الأمر الذى جعل مني فتاة قوية أرفض التنازل عن أحلامي أو تدخل أحد فى شؤوني الخاصة، وكنت أتخيل أننى لا أتعرض لموقف سخيف أو تجاوز من الآخرين لأنني لا أعطي فرصة لأحد كي يفعل ذلك ولكن السبب الحقيقي هو أبي.
أذكر جيدا كيف وقف أبي أمامي رافضا أن أرتبط وأتزوج وأنا فى سن الـ 18 قائلا "يا إيمان في فرق كبير بين أنك تكوني زوجة وأم بعد ما تكتمل شخصيتك بالنضج العلمي والعقلي وحتى الجسدي وبين أنك تكوني أم وزوجة وأنتي لسه بنت في سن المراهقة فى حاجات كتير لازم تعيشيها ومراحل تمري بيها وأنتي لوحدك سيدة قرارك، أنا خايف عليكي من الندم في وقت لو حاولتي تتراجعي فيه هتكوني مذنبة في حق أسرة كاملة"، وبالفعل ساعدت الظروف على أن تنتصر نصيحة أبي واليوم بعد عشر سنوات من هذا الموقف أشعر بالامتنان لأبي وأحمد الله على تلك الظروف التى ساعدته على أن تتحقق رغبته.
كله على الله، منذ أيام طويلة وحتى هذه اللحظات التى أكتب فيها المقال لا زالت تلك الجملة البسيطة تتردد داخلي بصوت أبي حتى اكتشفت أنها ليست مجرد كلمات بل دستور حياة، فحين عدت إلى ذكرياته التى يرويها لنا بمنتهى الفخر والسعادة أجد أن هناك خبرة عظيمة خرجت منها تلك الكلمات؛ فقد بدأ أبي رحلة العمل وهو طفل في المرحلة الابتدائية، الأمر الذي دفعني إلى اتهام والديه بالقسوة والظلم، ليجيبني ببساطة ويلقنني درس العمر قائلا "كل بيت وله ظروفه وكل أم وأب بيعملوا اللي عليهم، الشطارة بقى والبر الحقيقي أنك تستغلي اللي بيقدموه على قد ما تقدري والعظمة أنك تضيفي عليه أوتعوضيه فى أولادك، مفيش حد يا بنتي يقدر يقدم كل حاجة".
بعد أن انتهت تلك المرحلة من حياته سافر أبي في بدايات عام 1980 إلى العراق كعادة الشباب في ذلك الوقت وعاد من غربته يحمل في قلبه وعقله تجربة ثرية وذكريات تحمل عظيم الأمتنان لهذا الشعب العربي، تلك الذكرياته التي كانت ولازالت الدافع الحقيقي وراء حبي واعتزازي بانتمائي العربي عامة وللعراق خاصة.
عاد أبي من العراق ليجد قطار الوظيفة الحكومية قد فاته ومحاولات السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لم يكتب لها النجاح ولا يملك فى الدنيا سوى زوجة وطفلين، لم يستسلم أبي وسرعان ما أيقظ حلمه القديم بالعمل فى مجال الصيانة وبدأ هذا الطريق وهو في الثلاثين من عمره وقد عانى الكثير ليثبت أقدامه في هذا المجال، وبالفعل اشتهر أبي وحقق مكانة في هذا المجال لا يستهان بها، بالإضافة إلى أنها كانت أول الدروس التي تعلمناها في منزلنا؛ أن الإنسان يستطيع أن يبدأ كل يوم من جديد بشرط أن تتوفر لديه الإرادة والصبر وقوة الإيمان بالنفس.
أنعم الله علي بالذاكرة القوية وكم أحب هذه النعمة حين أفكر في الذكريات التى جمعتنا فأنا الابنة الكبرى، عاصرت مواقف كثيرة ومررنا بظروف جعلتني جزء من تجربة المنزل بالكامل.. أذكر جيدا كيف كان أبي ينقطع عن الأكل إذا انقطع يوما عن العمل حتى ولو كان رغما عن إرادته، وأتذكر أيضا كيف اختلفت أمامه مع أخي الذي يصغرني بعام حول طبيعة عمل أبي؛ يقول "بابا عامل" وأنا أقول "فني صيانة" لم يتدخل أبي لينهي الخلاف لتأتي الإجابة من تلقاء نفسها بعد سنوات حين أنظر باحترام لكل إنسان يعمل فالمهم هو قيمة العمل وحين أردد بيقين أن المجد للشقيانين لأن أبي منهم ويفتخر بذلك.
أعتاد أبي أن يشاركنا اهتماماتنا منذ الطفولة كاللعب ومشاهدة أفلام الكارتون وأفلام إسماعيل ياسين، وما زال يهتم بمشاهدة التلفاز حين يسمح الوقت ونحن جميعا حوله، لم يسافر أبي يوما للتنزه أوزيارة الأقارب بمفرده بل كان يصر أن يصحبنا جميعا فعرفنا قيمة الأسرة وكيف تكون المتعة الجماعية والحرص على صلة الرحم.
لم يحصل أبي سوى على شهادة متوسطة لكن عقله لم يتوقف عند هذا الحد فقد عمل على أن يثقف نفسه بالقراءة والعمل والحصول على شهادات الخبرة ومعرفة قيمة الآخرين واحترامهم ومشاركتنا التطور التكنولوجي الهائل وتطور واختلاف متطلبات العصر وتفهمها دون أن يتدخل في شؤوننا، فتعلمنا معنى الخصوصية واحترام المساحات الشخصية، كما تعلمنا أيضا احترام شريك الحياة من احترامه ومحبته لأمى، المحبة التي تجعلها تدعوا له بالصحة والعمر وأن لا تعيش يوما بدونه.
كنت ولا زلت أعتبر أبي هو الصديق الأول الذي عرفته، فهو أول من شاركته أفكاري وناقشته في العديد من الأمور وكثيرا ما أستعين بذاكرته وذكرياته في التوثيق لأحداث هامة تخص الوطن أو رأي حول قضية ما في شأن من شؤون الحياة اليومية ثم أقوم بإعادة صياغتها ونشرها.
كان ولا زال رفيقي في الخطوات الهامة أذكر لمعة عيونه حين حصلت على شهادة الليسانس وصوته المرتبك ارتباك الفرحة وهو يبلغ أمي "الحمدلله اتخرجت عقبال أخواتها"، أراه الآن أمامي يهرول حول سور جامعة القاهرة لكي ألتحق بالدراسات العليا في كلية الإعلام وتكرر المشهد في أكاديمية الفنون وحين حالت الإجراءات دون إتمام الخطوة همس وهو يجلس بجانبي في طريق عودتنا للمنزل "متزعليش هنلحق السنة الجاية".
هو أول من شجعني على الكتابة، كان ولا زال يرى أنني أجيد هذا الفن لكني لا أعطيه حقه ولا أتفرغ له، وحين تجرأت وبدأت الكتابة في مجال النقد الأدبي يكون أبي أول من يقرأ ويعلق بالتشجيع.
شعرت بسعادة غامرة حين علمت بالصدفة أن له مذكرات كان يكتبها فى فترة ما فهذا يعني أننى ورثت عنه تلك الهواية؛ فهو صاحب حس أدبي بسيط وبليغ ومختصر ولغة سليمة جدا، ألجأ إليه كي يصحح لي خطأ كلمة أو يختار لي الأفضل بين جملتين، بالإضافة إلى أنه يشاركني القراءة ويهتم بها، ولا يدخر جهدا مادي أومعنوي لكي ينمي داخلي حب القراءة والكتب، وفي رحلتي العام الماضي إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب كان أبي رفيقي يحمل عني الكتب ويتبعني بهدوء وفرحة وأنا أتجول واختار حتى أنني كنت أنسى أنه بصحبتي.
لم ولن أنسي ما حييت دموع أبي حين عرفت صدمة الحب الأولى لم يملك في تلك اللحظات بجانب دموعه سوى أن يعدني بأن يظل السند الطيب صاحب السمعة الطيبة وأن يظل بجانبي مهما كانت اختياراتي وطلب مني أن أهون على نفسي فتلك هى التجربة الأولى.
وقد ظل صادق الوعد لم يتجاوز رغباتي أبدا حتي في تلك اللحظة حين وقفت ضد أبي معارضة فى موقف مصيري لم يستغل سلطة الأبوة وانتصرت رغبتي بكامل إرادته رغم تعنيفه لي، وتجلت عظمة أبي حين جلست أمامه أعاتبه وأشفقت عليه وهو يقسم ويبرر بكل بساطة وعظمة أننى أخطأت في تفسيري لكلماته ولم يقصد أبدا الإساءة لي، ومنذ ذلك اليوم لا يدخر أبي جهدا في أن يجدد ما بيننا من ثقة وأن يقدمني في كل موقف يخص منزلنا وينتظر رأيي ويصدق عليه فيعطيني ثقة أكثر وأحترام أكبر ممن حولنا مصدره احترامه لي.
لن أنسى ابدا حين عرضت عليه رغبتي فى السفر لمدة ثلاثة أيام برفقة صديقة لي لا يعلم عنها شيئا سوى حكاياتي عنها صمت قليلا ثم وافق وحين ابتسمت أمي فهم مقصدها ونظر إليها بكل ثقة قائلا "أنا عمري ما شكيت ولا أقدر أشك في أولادي" ليجدد أبي بهذه الكلمات ثقته فى نفسه ويبني جسورا بيننا وبين الخطأ لا ولن نعبرها أبدا، وسافرت وقضيت أيام جميلة كان يهاتفني أبي يوميا ليطمئن عليا ويوصيني بأن أستمتع قدر إمكاني وأن أكون رفيق خفيف لصديقتي.
اليوم يتم أبي عامه الـ 59، ليصبح على مشارف الستين وما زال يعمل وأطلب من الله أن يحقق له أمنيته الدائمة بأن يعمل لآخر أيام عمره وأسأله دائما أن يكرمه بالصحة والعمر والطمأنينة كما أكرمنا وما زال.
بالرغم من صلابة أنظر إليه أحيانا وأردد بيني وبين نفسي "كبر برضه" علامات الزمن لابد أن تجد لها مكان لتترك أثرها، وأشفق عليه من مسؤوليتي وأحلامي التي يحملها بحذر وحرص مثلي وأكثر وأقول "ألا يستحق أن أريحه مني ألم يتعب من هذا الحمل الثقيل" ينتبه أبي فجأة إلى نظراتي الساهمة ويباغتني بالسؤال"، نظراتي مالك سرحانة فى إيه عندك حاجة جديدة بتكتبيها"، ليضرب أبي بخيالاتي الضعيفة عرض الحائط ويعلمني درسا جديدا؛ أن العمر الحقيقي يحسب بكل قيمة جديدة يقدمها الإنسان.
بعد أيام سوف أتم عامي الثلاثين وحين أفكر في الأهداف التى أطمح لها أجد هدفين متكررين فى كل مرحلة أن لا أخذلك أبدا يا أبي وأن أظل أرى نظرة الاعتزاز والفخرفي عينيك وأنا أتقاسم معك فرحتي بكل خطوة جديدة.
المقال إهداء إلى صديقي الصدوق دائما وأبدا:
بابا «صبري عبدالعزيز خفاجة».