خلافاً للكثير من الحكام الذين تداولوا على مصر، بدا أحمد بن طولون طرازاً خاصاً بينهم. «ابن طولون» هو الجد الأكبر لمماليك مصر، أسس دولة قوية ثرية، استقلت -على وجه التقريب- عن الخلافة العباسية، وتوارث أبناؤه الحكم من بعده بعيداً عن قرارات السلطة المركزية فى بغداد. أخص ما تجده من سمات لهذه الشخصية يرتبط بالميل إلى التأمل. أنشأ لنفسه خلوة يأوى إليها ليفكر ويتدبر فيها أحواله الذاتية وأحوال الدولة التى يحكمها. وواضح أن هذه الخلوة كانت الورشة الكبرى التى يصنع بداخلها قراراته التى كانت تخرج فى أكثر الأحوال محسوبة ومدروسة وموزونة بميزان دقيق.
لم يكن «ابن طولون» يمارس فضيلة التأمل والحساب داخل خلوته فقط، بل كان يؤديها فى كل مكان يصلح لذلك. صوامع الأقباط على سبيل المثال كانت محطة من المحطات التى يفضلها للاعتكاف والتأمل. ولو أنك تأملت كتاب «جاك تاجر» المعنون بـ«أقباط ومسلمون» فستجد أن كاتبه يشير إلى أن ابن طولون كثيراً ما كان يتردد على الكنائس والأديرة وأحياناً ما كان يعتكف فى صوامع الرهبان ويتأمل، وكان يتحدث بصفة خاصة مع راهب اسمه «أنطون»، وقد استفاد الرهبان من هذا التوجه فتقدموا إلى «ابن طولون» بشكايات عن ثقل الجزية المفروضة عليهم، فمنحهم بعض الامتيازات، وكف يد رجاله عنهم.
يقول «ابن إياس»: دعا الأمير أحمد بن طولون ذات يوم الشيخ أبا الحسن بن حماد وكان من كبار العلماء، ارتجف «أبوالحسن» وخاف على نفسه من هذا اللقاء، ولكن لم يكن هناك بد من الذهاب. تحرك العالم إلى الأمير الراقد فى خلوته ودخل عليه. مر وقت طويل حتى تنبه الأمير إلى وجوده، نظر إليه ثم أجلسه وسأله: ما تقول فى هذه المسألة؟. فرد العالم: يقول الأمير أيده الله بنصره، فقال: ما تقول فيمن سُلّط على شىء ففعله.. هل يُعذّب عليه؟. قال أبوالحسن: فعلمت أن المسألة ناشئة عنه، فقلت على الفور: لو كان كل مُسلّط مُعذباً لكان ملك الموت أشد الناس عذاباً يوم القيامة، فلما سمع الأمير ذلك استوى جالساً وقال: كيف قلت؟ فرد العالم: لو كان كل مسلط معذباً لكان ملك الموت أشد الناس عذاباً يوم القيامة. سكت «ابن طولون» طويلاً ثم صرف أبا الحسن وبعث فى إثره بمن يحمل له 100 دينار.
بعض المؤرخين استغربوا مسلك أحمد بن طولون، وبلغ بهم الاستغراب حد التشكيك فى قواه العقلية وتماسكه النفسى، خصوصاً أنه كان يتعامل بمنتهى العنف مع خصومه. من الصعب تصور أن الرجل كان مريضاً نفسياً أو عقلياً. فكيف لنا أن نتصور ذلك ونحن نقرأ عن قوة الدولة فى عصره، اقتصادياً وعسكرياً؟. نحن ببساطة أمام شخصية مركبة حيرها التأمل فى ثقافة عصرها، تلك الثقافة التى تخلط بين العدل والظلم، والمنح والمنع، وحماية الحياة والترخص فى أرواح البشر، والاجتهاد فى البناء والبحث عن المال السريع. «ابن طولون» كان مثله مثل حكام عصره يحمل الكثير من المتناقضات فى نفسه، لكن الفارق بينه وبينهم أنه كان يحس ويشعر، ويفكر ويتأمل، فتنزعج نفسه مما يجول فيها من أفكار ووساوس.