قدمت كتب التراث وصفاً مستخفاً بشخصية «مسيلمة»، وسعت إلى رسم صورة كاريكاتيرية له، لكنها لم تفسر لنا أسباب تلك الوقفة الصلبة والحرب الشرسة التى خاضها «مسيلمة» وأتباعه ضد الجيوش التى سيّرها إليهم أبوبكر الصديق لإعادتهم إلى حظيرة «الطاعة القرشية» من جديد، وهى الحرب التى استُشهد فيها الكثير من المسلمين. ذكرت لك أن كتب التراث دمغت «مسيلمة» بـ«السحر» وإتقان «علم النيرنجات»، وقدرته على إدخال البيضة فى الزجاجة، وقص جناح الطير ثم وصله، وحلب الظبية، وغير ذلك من وقائع أرادت الروايات من خلالها التأكيد على أن «مسيلمة» كان «ساحراً كذاباً». وذلك هو الملمح الأول من ملامح شخصيته. الملمح الثانى الواضح يرتبط بـ«الشهوانية» والولع بإتيان النساء.
تركز روايات التراث أيضاً وهى تتعرض لشخصية «كذاب اليمامة» على التنويه إلى سخف وسذاجة العبارات التى كان يلوكها بلسانه ويعتبرها وحياً من عند الله. وهى عبارات تعكس فى المجمل مستوى مرتفعاً من الضحالة العقلية. يقول «ابن الأثير» فى «تاريخه»: «ضرب مسيلمة لسجاح قبة وخمرها لتذكر بطيب الريح الجماع، واجتمع بها، فقالت له: ما أوحى إليك ربك؟ فقال: ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمةً تسعى، بين سفاق وحشى. قالت: وماذا أيضاً؟ قال: إن الله خلق النساء أفراجاً، وجعل الرجال لهن أزواجاً، فتولج فيهن قعساً إيلاجاً، ثم تخرجها إذا تشاء إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً إنتاجاً. قالت: أشهد أنك نبى». وتقع هذه العبارات وغيرها مما ينسبه الرواة والقالة إلى «مسيلمة» فى إطار الاجتهاد فى تقديم صورة مشوهة له.
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للرواة، فقد كان جد مختلفاً بالنسبة لقومه من بنى حنيفة الذين التفوا حوله ودعموا تمرده على دولة الخلافة القرشية التى كان يتصدرها حينذاك الخليفة الأول أبوبكر الصديق. يعزو «ابن كثير» هذا الالتفاف الأهلى حول «مسيلمة» إلى شخصية «نهار الرجّال بن عنفوة». وكان «الرجال» قد جاء إلى النبى وأسلم وحفظ سوراً من القرآن وفقه فى الدين، فلما تمرد «مسيلمة» أرسل به «أبوبكر» إلى أهل اليمامة -وكان الرجّال منهم- يدعوهم إلى الله ويثبتهم على الإسلام فإذا به يزعم أنه سمع النبى يقول قبل وفاته إنه أشرك «مسيلمة» فى الأمر، فازداد التفاف أهل اليمامة حوله. تعددت الجيوش التى أرسل بها «أبوبكر» لتأديب «مسيلمة» وإخضاع أهل اليمامة، وفى كل مرة كانت الهزيمة من نصيب المسلمين، حدث ذلك مع جيش عكرمة بن أبى جهل وجيش شرحبيل بن حسنة. اضطر الخليفة فى النهاية إلى الاستعانة بخالد بن الوليد بعد تصفية سوء تفاهم بينهما. حاصر خالد بن الوليد «مسيلمة» وأتباعه داخل الحديقة حتى تمكن البراء بن مالك من تسورها واقتحامها وفتح الباب ليدخل منه المسلمون وأعملوا سيوفهم ورماحهم فى أتباع «مسيلمة» حتى خلصوا إليه. فتقدم إليه «وحشى»، قاتل حمزة، فرماه بحربته فأصابه وسارع إليه «أبودجانة» فضربه بالسيف. وتنتهى قصة «مسيلمة» بمشهد وقف فيه خالد بن الوليد أمام رجل أصفر أخنس فقال هذا صاحبكم فقال «خالد» قبحكم الله على اتباعكم هذا.