على أثر سقوط الاتحاد السوفيتى وتحطيم سور برلين، تبلور نظام العولمة، وتركزت فى المقام الأول على الجانب الاقتصادى، من خلال تحرير التجارة الدولية، وإزالة العوائق أمام تدفقات رؤوس الأموال المصرفية والاستثمارات الأجنبية، وتزايد درجة الاندماج والارتباط المتبادل بين الدول والمجتمعات. وقد ساعد على ذلك تقدم التكنولوجيا فى مجال المعلومات والاتصالات. وعلى هذا النحو، فرضت العولمة نظاماً جديداً للعلاقات الدولية، فبعد أن كانت الدول من قبل تتعامل مع غيرها من مواقع داخل حدودها الإقليمية، أدى تطور هذه العلاقات فى ضوء الثورة التكنولوجية لوسائل الاتصال، إلى جعل هذه الحدود غير قائمة. هذا بالإضافة إلى تراجع السيادة الوطنية للدول أمام متطلبات المجتمع الدولى لحماية مصالحه المشتركة.
وتجد العولمة الكثير من أصوات التأييد فى الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية، حيث بشَّر العديد من الساسة والمفكرين بأن التجارة الحرة وانفتاح أسواق رأس المال وحرية حركة الأشخاص هى المحركات العظيمة لتقدم البشرية. على النقيض من ذلك، ومنذ نشأة العولمة، والحديث لا ينقطع فى الدول النامية أو دول العالم الثالث عن مساوئ هذا النظام. ويمكن وصف النظرة السائدة فى عالمنا العربى وفى الدول النامية بشكل عام بأنها سلبية، لا ترى فى العولمة سوى شر مستطير. ووصل الأمر بالبعض إلى حد وصف العولمة والنظام العالمى الجديد بالخديعة. وعقدت مكتبة الإسكندرية مؤخراً ندوة بعنوان «أكذوبة العولمة». ولا تقتصر هذه النظرة السلبية على الأكاديميين وأهل الفكر، وإنما تمتد إلى بعض رجال السياسة رغم سعيهم الحثيث لدمج بلدانهم فى الأسواق العالمية. ففى إحدى المناسبات، قال الرئيس الأوغندى «يورى موسيفينى» إن العولمة لا تختلف كثيراً عن النظام القديم، لكنها تستخدم سبلاً جديدة للسيطرة، وسبلاً جديدة للقمع، وسبلاً جديدة للتهميش، بواسطة البلدان الغنية الساعية إلى تأمين قدرتها على الوصول إلى أسواق البلدان النامية. ويرى آخرون أن العولمة قصة أبطالها القليل جداً من الفائزين ومليارات من الخاسرين، قصة شراكة غير متكافئة، ومساواة منعدمة وتنمية مكبوحة، قصة متواصلة من الاستغلال والإقصاء. فالقواعد إذن ليست فى صالح الدول النامية.
والواقع أن العولمة غدت أمراً واقعاً، والحديث عن مساوئها لن يحقق أى نتيجة عملية ولن يؤدى إلى إلغائها أو العدول عنها. ولا يمكن لأى دولة فى العصر الحالى أن تعيش فى عزلة عن المجتمع الدولى. كذلك، فإن السياسات الحمائية فى السابق لم تفلح فى بناء صناعة وطنية حقيقية أو اقتصاد وطنى قوى. ونرى أن عالم اليوم هو عالم الأقوياء، والحل الوحيد هو بناء الإنسان القادر على التحدى والمنافسة فى سوق العمل الدولية. وإذا كانت العولمة تعنى إزالة الحدود بين الدول، فإن معظم أصحاب المهن الحرة فى عالمنا العربى لا يزالون يتعاملون مع السوق المحلية فقط دون أن يمدوا أبصارهم إلى ما وراء الحدود والبحار. لقد صار ممكناً من خلال شبكة المعلوماتية الدولية تسويق المنتجات والخبرات فى أى مكان فى العالم. وللتدليل على ذلك، يمكن أن نشير هنا إلى بعض المواقع الإلكترونية الأجنبية التى تتيح لذوى المهارات والخبرات تسجيل أنفسهم فى الموقع وتقديم خدماتهم مقابل رسوم، ومنها موقع (Fiverr). ويمكن للمترجمين والرسامين وغيرهم استخدام هذه المواقع فى النفاذ إلى المستهلكين وطالبى الخدمة فى كل أنحاء العالم. الحل إذن هو فى أن يكون المواطن عالمياً، ولن يكون كذلك إلا إذا كان مؤهلاً بشكل جديد، قادراً على المنافسة على المستوى العالمى.
والله من وراء القصد.