(1)
لم يكن «موريس كوهين» وزوجته «لونا» وحدهما منْ عمِل لصالح المخابرات السوفيتية حتى حصلتْ على أسرار القنبلة الذرية. كانت هناك أسطورة علمية واستخباراتية حاسمة: إنَّهُ البروفيسور «كلاوس فوكس».
كان «موريس كوهين» يهودياً، وكان «كلاوس فوكس» مسيحياً.. كما كان «موريس كوهين» أمريكياً.. وكان «كلاوس فوكس» ألمانياً. لكن العقيدة الشيوعية كانت أساس الولاء والانتماء.. كانت الأيديولوجيا فوق الوطن.. أو كانت الشيوعية هى الوطن.
ساعدت العقيدة الشيوعية كثيراً فى عملية تجنيد العملاء.. وهى التى دفعت البعض للسعى إلى العمل لصالح المخابرات السوفيتية. وأياً ما كانت الأوطان الأصلية أو الجنسيات القائمة أو الأديان السابقة.. فإن الشيوعية أصبحت بالنسبة لهم كل شىء.
لقد كان «كلاوس فوكس» كما كان «موريس كوهين» واحداً من هؤلاء.
(2)
ولد الدكتور «كلاوس فوكس» فى ألمانيا عام 1911.. نبغَ فى التعليم، كما اهتم بالسياسة.. انضمَّ إلى قوى اليسار حتّى أصبح عضواً فى الحزب الشيوعى الألمانى.
كان النازيون يصعَدون.. وكان اضطهاد النازيين للشيوعيين يتصاعد هو الآخر. ثم أصبحت ملاحقة النازيين للشيوعيين أساساً فى رؤية الحزب النازى للخريطة السياسية الألمانية.
فى عام 1933، هربَ «فوكس» إلى فرنسا.. ثم إلى بريطانيا. وهناك فى جامعة بريستول.. بدأت ملامح العالم الكبير تتبلور.. حيث حصل «فوكس» على درجة الدكتوراه فى «الفيزياء النظرية». كان النبوغ العلمى للدكتور «فوكس» واضحاً للجميع.. لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية وضع حداً لوجود الألمان فى بريطانيا. وكان «فوكس» واحداً من المبعَدين الألمان إلى كندا.. كإجراء احتياطى اتخذته السلطات البريطانية.
كانت بريطانيا تسابق الزمن للوصول إلى «القنبلة».. وأشار العلماء إلى ضرورة أن يكون الدكتور فوكس موجوداً فى لندن. وهو ما حدث.. حيث تم استدعاؤه من كندا.. وأصبح فى بدايات عام 1941 واحداً من العلماء الذين يحضرون للقنبلة الذريّة فى المختبرات البريطانية.
(3)
لقد كان التحوّل الدرامى الكبير فى مسار الحرب العالمية الثانية صيف 1941 صادماً للكثيرين.. ومن بينهم «فوكس». فقد قام «هتلر» بغزو الاتحاد السوفيتى.. وهنا صعدتْ العقيدة الشيوعية عند «فوكس» إلى السطح.. حين تأكد العالم الألمانى أنَّ الحلفاء الغربيين للاتحاد السوفيتى قد تركوه وحيداً يواجه ألمانيا.. وأنه لا يتشارك أيّة أبحاث عسكرية مع الحليف السوفيتى.
رأى «فوكس» فى ذلك خيانة للحليف.. وأنه يجب أن يعمل على تصحيح ذلك بالعمل على دعم الاتحاد السوفيتى وإعطائه نتائج الأبحاث النووية. اتصل «فوكس» بصديقٍ ألمانى يعمل لصالح السوفيت، تحدثَّ معه عن مسار الأبحاث السريّة بشأن السلاح الخطير الذى يعمل الغرب على صناعته، وأبلغه أنه سيعطى تلك الأبحاث للجانب السوفيتى. وعلى أثر ذلك، تواصل «فوكس» مع ضابط استخبارات عسكرية فى السفارة السوفيتية.
فى عام 1942 حصل العالم الألمانى على الجنسية البريطانية.. وفى 1943 سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية للعمل أستاذاً فى جامعة كولومبيا فى نيويورك.. وواحداً من فريق العلماء فى «مشروع مانهاتن» لصناعة القنبلة الذرية. وهنا انتقل ملف «العالم - الجاسوس» من جهاز الاستخبارات العسكرية إلى جهاز الاستخبارات الشهير «كى جى بى».
(4)
لم ينجح «مشروع فيرونا» السوفيتى لصناعة القنبلة الذرية.. ونجح «مشروع مانهاتن» الأمريكى نجاحاً كبيراً. وهنا عمل الدكتور فوكس بقوة لصالح الاتحاد السوفيتى.. وفى خلال عامى 1946 و1947 قدم معلومات مذهلة.. كانت هى الأساس فى سرعة وصول السوفيت للقنبلة الذرية عام 1949.
كان «فوكس»، عالم الفيزياء النووية «الألمانى - البريطانى - الأمريكى»، واحداً من العلماء الذين طوروا المعادلات الرياضية والحسابية لصناعة القنبلة الهيدروجينية.. كما أنه عمل الكثير من أجل صناعة القنبلة الذرية.. وهو صاحب تصميم «صاعق تفجير كتلة البلوتونيوم» داخل القنبلة. وترتبط بعض العمليات الرياضية الخاصة بتفجير القنبلة باسمه حتى الآن.
فى عام 2018 تحدَّثت إلى التليفزيون الروسى «ناتاليا فيكليسوف»، ابنة رجل الاستخبارات السوفيتية الشهير «فيكليسوف»، وقالت إن والدها كان يرى دور «فوكس» مركزياً فى الوصول إلى القنبلة.. وأنه لولاه لاحتاج الاتحاد السوفيتى إلى عشر سنوات.. وهو ما كان مستحيلاً.. ذلك أن أمريكا كانت تخطط لقصف السوفيت قبل ذلك الموعد.. كانت هناك (300) قنبلة ذريّة جاهزة للقضاء على الاتحاد السوفيتى.
كان دور المخابرات السوفيتية يعادل دور العلماء تماماً.. ويرى البعض أنَّهُ لو كانت هناك جائزة الوصول للسلاح النووى السوفيتى لأخذها رجال الاستخبارات ورجال المختبرات مناصفةً بينهم.
استطاعت المخابرات السوفيتية أن ترمم الفجوة العلمية، وأن تغطى المساحة الزمنية الفاصلة.. ولو أن العلماء السوفيت كانوا وحدهم فى المعامل من دون ذلك الدور الاستخباراتى الكبير لجرى قصفهم.. هم ومعاملهم.. قبل الوصول إلى القنبلة.
كان الدكتور «كلاوس فوكس» واحداً من الذين أنقذوا الاتحاد السوفيتى.. وبعد أن رحلَ عام 1988.. زار أسطورة الاستخبارات «فيكليسوف» قبر «فوكس» فى درسدن، وانحنى أمامه قائلاً: «لولاك يا فوكس.. لما بقى الاتحاد السوفيتى فى هذا العالم».