المتأمل للعديد من المواضع فى كتب التراث يمكن أن يلحظ بسهولة عمليات «التلفيق» أو «الكذب غير المنسق» عند رسم صور الكبار من صحابة النبى (صلى الله عليه وسلم)، وكذا بعض الخلفاء الذين ولوا الأمر بعد الراشدين الأربعة، ويبقى أن الهدف الواضح لهذه «التلفيقات» هو «تجميل الصورة»، ووضعها فى إطار من المثالية، رغم أن طبائع البشر وأحداث التاريخ الإنسانى تشهد على عدم وجود ملائكة يمشون على الأرض، وأن وقوع الإنسان فى بعض الأخطاء أمر طبيعى وإنسانى، والنبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: «كل ابن آدم خطاء». المسألة لا تحتاج إلى تلفيق ولا يحزنون، فصحابة النبى (صلى الله عليه وسلم) قامات كبرى، ورجال من طراز خاص شاء الله أن يجتمعوا فى لحظة زمنية خاصة ليمثلوا قوة الدفع الكبرى للإسلام، لكنهم فى النهاية بشر يصيبون ويخطئون، وهو ما ينطبق أيضاً على التابعين، وبالتالى فمحاولة التلفيق أو التستر على أخطائهم لا لزوم له، بل تؤدى إلى التشكيك فى مستويات دقة تناول مؤرخى التراث للأحداث التى تصدوا للكتابة عنها.
تعالوا نبدأ بواقعة شرب حمزة بن عبدالمطلب عم النبى (صلى الله عليه وسلم) للخمر بالمدينة، بعد تحريمها بمكة المكرمة. على هامش عُرس على بن أبى طالب على فاطمة بنت النبى، اتفق صاحب السيرة الحلبية مع «ابن كثير» صاحب «البداية والنهاية» على سرد واقعة تقول أن علياً فوجئ فى ذلك اليوم بناقتين له وقد طعنتا فى سنامهما وخواصرهما، فسأل عن الفاعل فقيل له: إنه حمزة بن عبدالمطلب وهو فى هذا البيت، وعنده قينته وأصحابه، فقالت فى غنائها: ألا يا حمز للشرف النواء، فوثب حمزة إلى السيف فأجب أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما». انطلق على إلى النبى ليشكو له ما فعل حمزة وقال له: ها هو ذا فى البيت معه شرب، فدعا النبى (صلى الله عليه وسلم) بردائه فارتداه، ثم انطلق يمشى، يتبعه على وزيد بن حارثة، حتى جاء البيت الذى فيه حمزة، فاستأذن عليه فأذن له، فطفق النبى (صلى الله عليه وسلم) يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه، فنظر حمزة إلى النبى (صلى الله عليه وسلم)، ثم صعّد النظر فنظر إلى ركبتيه، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه، ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبى؟، فعرف النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه ثمل فنكص رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على عقبيه القهقرى فخرج وخرج معه صاحباه.
اجتهد «ابن كثير» -وغيره من المؤرخين- وهو يحكى هذه الواقعة فى تلفيق الأحداث ولى ذراعها ليثبت أمراً واحداً، وهو أن الخمر حُرّمت بالمدينة المنورة، بعد واقعة بنى النضير، فى محاولة لتبرير شرب حمزة لها، وذهابها بوعيه إلى حد الاعتداء على حقوق الغير، والأهم والأخطر التطاول على النبى، والواقعة هنا لا تذكر الخمر وحدها، بل تذكر أن ثمة قينة (مغنية) كانت تغنى أمام حمزة وتمتدحه، فى مشهد تكامل فيه «الغناء والراح»، وقد رأى فيها «ابن كثير» إساءة لصورة حمزة، بل إلى المشهد العام فى المدينة، فاندفع إلى التلفيق. ومن العجيب أن «ابن كثير» يدين نفسه بعد ذلك، ويثبت بقلمه أن الخمر إنما حرمت فى مكة وليس فى المدينة، عندما حكى واقعة الإسراء والمعراج، ومن المعلوم بالضرورة أن هذه الحادثة وقعت فى مكة، ويذكر فى هذا السياق: «ومضى معه جبريل حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى فى نفر من الأنبياء، فأمَّهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فصلى بهم، ثم ذكر اختياره إناء اللبن على إناء الخمر، وقول جبريل له هديت وهديت أمتك، وحرمت عليكم الخمر».