تشهد وقائع التاريخ وأحداثه أن «عرب الجزيرة» كان لهم موقف سلبى من أقباط مصر بعد الفتح، ولم يرعوا مكانهم ولا مكانتهم لدى النبى (صلى الله عليه وسلم). ربما وجدنا تفسيراً لهذا الموقف الذى سنشرح أبعاده تواً بـ«عقدة البدوى أمام أهل الحضارة». النبى كان العربى الوحيد الذى يستوعب قيمة هذا البلد، وأصالة أهله، وتجذرهم فى دنيا الحضارة. وثمة مشاهدات على أن النظرة النبوية لقبط مصر لم ترُق لعرب الجزيرة، فحاولوا محاصرتها والنبى لم يزل حياً، وبعد وفاته (صلى الله عليه وسلم) تنكروا لها وبالغوا فى إرهاق المصريين بعد دخول عمرو بن العاص إلى البلاد، وعاملوهم كما يعاملون غيرهم، رغم وجود إشارات نبوية عديدة تحذر من ذلك.
اللقاء الأول بين النبى والمصريين جاء عبر الرسالة الشهيرة التى بعث بها إلى المقوقس عظيم القبط، وهى الرسالة التى أكرم المقوقس حاملها الصحابى الجليل حاطب بن أبى بلتعة، ووصفه بأنه «حكيم من لدن حكيم»، وكتب رداً مهذباً عليها، وأرسله مع «حاطب» مشفوعاً بهدية للنبى، شملت ثياباً وبغلة وثلاث جوارٍ، من بينهن «مارية القبطية» أم ولده إبراهيم. حكيت لك ذات مرة عن حب النبى (صلى الله عليه وسلم) لـ«مارية القبطية» إلى حد أن غار منها أزواجه، فكاد يُحرّمها على نفسه لولا نزول الوحى بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التحريم:1). يشير الطبرى فى تفسيره إلى أن هذه الآية نزلت لما حرم النبى على نفسه الاقتراب من «مارية» إرضاءً لـ«حفصة بنت عمر بن الخطاب». ولم تكن «حفصة» وحدها هى التى تغار من القبطية التى أحبها النبى، بل انضمت إليها عائشة التى كانت أثيرة لدى محمد قبل قدوم «مارية». ويذكر «ابن سعد» فى «طبقاته»: «لما وُلد إبراهيم جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلىّ فقال: انظرى إلى شبهه بى. فقلت: ما أرى شبهاً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ألا ترين إلى بياضه ولحمه، قالت: من سقى ألبان الضأن، ابيضّ وسمن».
ويبدو أن أطرافاً معينة داخل المدينة تدخلت فى ترجمة هذه الغيرة التى بدت واضحة من جانب أهم زوجتين للنبى (حفصة وعائشة) إلى أفعال تؤدى إلى إيذاء «مارية» وضرب مكانتها عند النبى (صلى الله عليه وسلم)، فقد ارتبط بـ«مارية» حديث يشبه «حديث الإفك» الذى تعلق بأم المؤمنين عائشة. يحكى «ابن عبدالحكم» فى كتابه «فتوح مصر وأخبارها» واقعتين يشير فيهما إلى أن النبى داخَله نوع من الشك فى «مارية»: الواقعة الأولى يذكر فيها أن محمداً أفضى بشكوكه إلى عمر وقال له إنه يشك تحديداً فى نسيب لها جاء معها من مصر، فهمّ عمر بقتله لكن الرجل كشف له أنه «خصى» فأبلغ رسول الله بذلك، فأخبره أن وحى السماء نزل إليه بتبرئتها، وأما الواقعة الثانية، فتشير إلى أن الشك داخَل النبى بعد مولد ابنه إبراهيم حتى جاءه جبريل وقال له: «السلام عليك يا أبا إبراهيم». النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يقول: «جاءنى جبريل وكنّانى بأبى إبراهيم».. والمشهور عن النبى أنه لم يكن شكاكاً فى أحد، وبالتالى فمن الصعب قبول فكرة أن الشك قفز فى نفسه، فالأرجح أنه سمع ما يريبه فتحرك بناء على ذلك. وثمة سؤال جدير بالطرح: لماذا لم تشتهر كنية «أبوإبراهيم» عن النبى، رغم أن الذى كناه بها وحى السماء؟ وما الأسباب وراء تعمد عرب الجزيرة وأشهر المؤرخين للسيرة النبوية تهميش هذه الكنية؟ وهل يعكس ذلك موقفاً تاريخياً من مصر والمصريين الذين أحبهم النبى؟