كتبت سلفاً عن تجاهل اسم الزعيم الكبير مصطفى النحاس فى شوارع وسط القاهرة، مع أن شارع قصر النيل لا يزال اسماً بلا مسمى حتى الآن، جاهزاً لأن نطلق عليه اسم الزعيم مصطفى النحاس الذى ظلمناه طويلاً طوال سنوات العزلة الإجبارية التى فرضت عليه!
ويبدو أن تكريم العظماء فى مصر حظوظ. فمن الحظوظ أن نقيم تمثالاً للفريق عبدالمنعم رياض بميدان التحرير، وهو لا جدال يستحق التكريم، بينما لم نقم تمثالاً لائقاً بقلب القاهرة حتى الآن لأى من الزعيم جمال عبدالناصر الذى استشهد الفريق رياض إبان حكمه، أو للرئيس السادات صاحب قرار وحرب العبور. وقد يقال إضافة لذلك إن حرب التحرير بين 1967 و1973، هذه الحرب التى حملت بطولات لأبطال عظام لا تقل بطولاتهم عن الفريق «رياض»، ومع ذلك لم يكرمهم أحد!
ظنى أن الأمور جارية على نظام المصادفات، أو الاستجابة للإلحاحات، وإلاّ فكيف نفسر توارى عباس العقاد وتوفيق الحكيم ويحيى حقى توارياً يكاد يكون تاماً فى موجات التكريم التى تكاد الآن تنصب فى العظيم نجيب محفوظ دون أن نبالى بمن أطلق عليهم هو نفسه أنهم أساتذته الذين حفروا وعبَّدوا الطريق.. هل كان عباس العقاد يدرك قلة التقدير والوفاء حين هرب بجثمانه فأوصى أن يدفن بمسقط رأسه أسوان حتى لا يضيع فى زحام القاهرة كما ضاع عشرات الأعلام؟ وكما تجاهلت العاصمة الآن إقامة تمثال للعقاد فى القاهرة، إذ لا يكفى تخليداً له أن يطلق اسمه علـى شارع بمدينة نصر!
ما هو المنطق؟
ما هو منطق أن تتوارى جثامين وأضرحة قامات مثل مصطفى كامل ومصطفى النحاس ومحمد فريد وعرابى وطه حسين ولطفى السيد وتوفيق الحكيم ويحيى حقى، بينما لأحمد ماهر ضريح بوسط القاهرة كان من حظ محمود فهمى النقراشى أن ألحق به. بديهى لست أعترض على تكريم رياض ومحفوظ وماهر والنقراشى، ولكنى أتساءل فقط عن عدم تكريم آخرين يستحقون أيضاً كل التكريم!
هل يغفر التاريخ؟
هل يغفر لنا التاريخ أننا حتى الآن لم نقم تمثالاً لائقاً للزعيم جمال عبدالناصر، أو للرئيس محمد نجيب أول رئيس للجمهورية، أو للرئيس السادات صاحب قرار الحرب والعبور، أو للزعيم مصطفى النحاس الذى أدى أدواراً عظيمة فى تاريخنا الحديث؟!
لا جدال أن العظيم نجيب محفوظ محظوظ فضلاً عن تفرده بمجموعة محبيه الذين يحوطون ذكراه بالعناية والتكريم فى كل مكان، وآخرها إطلاق اسمه على تكية أبوالدهب وإنشاء متحف باسمه. ولكن ألا يمثل هذا بمفهوم المخالفة أننا نغضى بلا منطق ولا مبرر عن تكريم عظمائنا أمثال أحمد لطفى السيد والعقاد وتوفيق الحكيم ويحيى حقى وآخرين فى عقد فريد ملأوا الحياة الأدبية والفكرية، إلى جانب عظماء القادة والزعماء الذين غيرنا ما كان قد أطلق من أسمائهم على مدن أو بحيرات حال حياتهم؟!
آفة العشوائية
ظنى أن مرد ذلك ليس فقط إلى قلة الوفاء، وإنما إلى عشوائية تترك الأمور لمصادفات المقادير، مثلما تركت كل شىء جميل فى القاهرة المعزية إلى أيادى الإهمال والقبح والقذارة، فضاعت الجماليات، حتى فى التماثيل التى أقيمت مؤخراً فاختيرت لها أمكنة تكاد تزرى بها، كالمكان المختار لتمثال أمير الشعراء أحمد شوقى أمام صيدلية، أو ضياع معالم تمثال الفريق رياض وسط ارتفاعات كوبرى أكتوبر من ناحية، والأنتكخانة من ناحية أخرى، حتى إنك لا تستطيع أن تهتدى إلى موضع التمثال إلاّ إذا فتشت وأمعنت البحث لتجده فى النهاية صغيراً متواضعاً لا يوحى بأى شموخ وسط الغابة الخرسانية العالية المحيطة به!
ماذا أقول لكم؟! هل أقول انظروا إلى مساحة وامتداد ميدان الكونكورد الذى وضع فيه الباريسيون المسلة المصرية فصارت عنواناً يراه ملايين العالم المعمور من زوار باريس، بينما القاهرة وبقية عواصم مصر خالية من أى تكريم حتى لبنيها الكبار، فضلاً عن توارى الجمال وشيوع القبح والدمامة.
رحم الله أحمد بهاء الدين الذى ظل إلى آخر يوم قبل أن تأخذه الغيبوبة ينادى بالعودة إلى رعاية الجمال فى بر مصر!
عشوائيات متعددة
والواقع أن عشوائيات الحظوظ، لا تقتصر على إقامة التماثيل، أو المتاحف، أو أسماء الميادين والشوارع، وإنما تمتد فى اتجاهات متعددة. من الراحلين من يغتنمون الحظوظ الواسعة فى الرثاء والتأبين والكتابة عنهم، وطباعة ونشر وترويج مؤلفاتهم، والاحتفال بهم فى ذكرى الوفاة أو الميلاد. ومن كبار المفكرين والكتاب والأدباء والفنانين، من يسدل عليهم عمداً أو إهمالاً أو لعدم وجود الشلة المظاهرة يسدل عليهم ستار كثيف من النسيان. يمكنك أن تدهش وأن تتساءل أين مؤلفات الأستاذ الفذ الدكتور زكى نجيب محمود، صاحب التراث العريض فى الفكر والفلسفة والأدب، الذى أثرى المكتبة العربية بدرر فذة متفردة، أنار بها ظلاماً وأيقظ عقولاً، وأين مؤلفات الدكتور لويس عوض صاحب المكتبة النقدية الفريدة، والكتابات التى فتحت آفاقاً فى المسرح، وفى الشعر والأدب، وتناولت بالبيان شخصيات وأعمال عديدين من أعلامنا وأعلام العالم فى الفنون والآداب، وأين الأستاذ الدكتور شوقى ضيف صاحب المشروع الشامل فى الأدب العربى، الذى أتحفنا بأمهات الكتب والدراسات فى كل باب من أبوابه، شعراً، ونثراً، وعبر فترات التاريخ المختلفة.
لا أريد أن أزيد المواجع بإضافة باقى حبات العقد الفريد الذين طواهم النسيان. ربما استطاع البعض التعلل بأن إنتاج الدكتور لويس عوض مضروب عليه حصار وريث، بيد أن ذلك لا يمنع من تناول أعمال الدكتور لويس عوض وبيان دوره المهم وأثره، وما كان يكفله لنا كل عام بالسفرية التى كان ينتدبه لها الأهرام للاطلاع ومشاهدة آخر المستجدات فى المسرح وأحدث النظم والمذاهب التى تموج بها أوروبا والعالم، وبرحيله ترك فراغاً لم يملأه أحد، وأعرض من هذا الفراغ ما حل بعد رحيل شيخ النقاد الدكتور محمد مندور الذى قدم درراً وأيقظ عقولاً ولفت أنظاراً لأسرار الأدب وغاياته وأعلامه وصفات ومزايا كل منهم.
ولا أحسب أن أحداً عنده أى تفسير مقبول لدفن أعمال الدكتور زكى نجيب محمود، وهى أعمال فريدة لا صنو ولا نظير لها. وعن غير ذلك فحدث ولا حرج.
إن هذه العشوائيات التى أدت إلى تجاهل ضرير، ليس حسبها قلة الوفاء أو الجحود والنكران، وإنما هى تخصم خصماً ضريراً من رصيد مصر الثقافى والفكرى والمعرفى، لا سيما والنضوب قد أصاب المعين، وصار نادر الندرة أن نرى علماً يغطى ما كان يغطيه هؤلاء الأعلام العظام.
دعونى أقل لكم إن الأمة التى لا تاريخ لها، تجترّه أجيالها، أكثر عرضة لأن يكون حاضرها بلا تاريخ يعبر عما قطعته وعيونها مفتوحة على أعلامها العظام الذين فحتوا فى الصخر ووطّدوا للحاضر!