هناك بشر فى الحياة يكون قدرهم التضحية دون أن ينتظروا أو يتوقعوا ثمناً لتضحياتهم، قد يحصد غيرهم نتاج ما قدموا ويستفيد منه ويترجمه إلى منافع ومكاسب لا يحظون منها بشىء، قد يتبرّمون من ذلك لبعض الوقت، لكنهم فى النهاية يرضون. الحياة اختيارات، وهذا الصنف من البشر يختار المكاسب الأدبية أو المعنوية ويفضّلها على ما سواها، وهو فى كل الأحوال أرضى الناس بذلك، وأميلهم إلى نيل هذا النوع من المكاسب، التى تُبيّض صفحة تاريخهم وتزينها.
أهل يثرب «مدينة رسول الله» نموذج شاخص على هذا النوع من البشر. المؤسس الأول لمدينة «يثرب» هو يثرب بن قانية، وفيها عاش حارثة بن ثعلبة، الذى أنجب ولدين أحدهما أوس والآخر خزرج، ومن كليهما تفرّعت وتمدّدت قبيلتا الأوس والخزرج. إلى جوار أبناء وأحفاد أوس وخزرج توطّنت ثلاث مجموعات يهودية، شملت: بنى النضير وبنى قريظة وبنى قينقاع. لم تكن الأوضاع فى يثرب مستقرة، فمن حين إلى آخر كانت تقع حروب بين القبيلتين، تجرى فيها الدماء أنهاراً، لعل أشهرها حرب «البُعاث». وهى حروب كانت تحركها العصبية من ناحية، ودسائس اليهود من ناحية أخرى. وظل أهل «يثرب» على تلك الحال حتى بعثة النبى محمد، صلى الله عليه وسلم. الوضع فى مكة كان مختلفاً، فقد كانت هناك قبيلة غالبة على أمرها هى قبيلة قريش، وبالتالى لم يكن من الوارد أن تنشب بهذه القرية حروب ترقى فى شدتها وحجمها إلى تلك المعارك التى كانت تندلع بين الأوس والخزرج.
عندما بُعث النبى برسالة الإسلام، رفض أهل مكة دعوته رفضاً قاطعاً، ولم يؤمن له سوى عدد محدود من أهل بيته وأقاربه وبعض العبيد والموالى الذين كانوا يخدمون فى بيوت الأثرياء وكبار التجار القرشيين. يئس النبى من قومه، فاجتهد فى عرض نفسه على الوفود التى تأتى إلى مكة للحج، أو خلال موسم التجارة، ليعرض نفسه وما جاء به عليهم. فى سياق هذه المحاولات التقى النبى مع ستة من أهل «يثرب» (كلهم من قبيلة الخزرج)، فتحدث إليهم وعرض عليهم رسالته وتلا عليهم بعضاً من القرآن. فلما سمعوه، قال أحدهم: والله إنكم لتعلمون أنه النبى الذى تعدكم يهود، فلا يسبقنكم إليه. عاد هذا النفر من الخزرج إلى «يثرب» فأخذوا يقصون على أهلها ما وقع بينهم وبين محمد، وفى العام التالى عادوا بوفد يتشكل من 12 شخصاً بايعوا النبى بيعة العقبة الأولى. فشا الإسلام فى الخزرج، وبادر نفر من الأوس إلى الدخول فيه، ولم يمر عام حتى جاء وفد ضخم إلى مكة يتشكل من 370 رجلاً وامرأتين -كما يذكر «ابن خلدون» فى كتابه «ديوان المبتدأ والخبر»- فأسلموا وبايعوا النبى بيعة العقبة الثانية.
ولو أنك راجعت أعداد من آمنوا من أهل يثرب، وكانوا بالمئات، وذلك فى ما لا يزيد على 3 أعوام، قياساً إلى عدد من آمنوا بالنبى من أهل مكة، وكانوا بضع عشرات، بعد أن مكث النبى يدعوهم 13 عاماً كاملة، فبإمكانك أن تقف على التركيبة النفسية لأهل المدينة. فقد كان أغلبهم يتمتعون بنقاء سريرة، لا يعكرها البحث عن المصالح والمغانم، وصفاء ذهن لا ترهقه الحسابات السياسية، كما كان أمر أهل مكة. لم تزل هذه السمات غالبة على أهل القريتين حتى يوم الناس هذا. بعض المصريين ممن ذهب إلى الأراضى المقدّسة يفضّلون صحبة وعشرة أهل المدينة، ويقولون إنهم أكثر طيبة وتسامحاً، وأقل جفاءً. وهو وصف لا يخلو من مبالغة، لكنه فى كل الأحوال يعكس جانباً من وعى المصريين بأنصار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وولعهم بالسعى نحو أبواب المدينة.