صبر أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المواقع كلها، وجاهدوا معه، واستشهد من رجالهم وأشرافهم الكثيرون، حتى تمكن النبى فى نهاية الرحلة من فتح مكة لتدين القريتان (مكة والمدينة) بالإسلام سنة 8 هجرية. بعدها خاض المسلمون موقعة «حُنين» وغنموا منها الكثير، فأخذ النبى يوزع الغنائم على المؤلفة قلوبهم من «قريش» وكان أغلبهم من الطلقاء حديثى العهد بالإسلام. لم يكن أى من الغانمين يطاول أقل فرد فى الأنصار على مستوى التضحية والفداء والجهاد فى سبيل رفع راية الإسلام، ما أثار غضب أهل المدينة من أنصار النبى، وبلغ صوت غضبهم مسامعه صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم وقال لهم: «لو شئتم لقُلتم جئتنا طريداً فآويناك، ومكذباً فصدقناك، ولكن والله إنى لأعطى رجالاً أستألفهم على الدين وغيرهم أحب إلىَّ، ألا ترضون أن ينقلب الناس بالشاء والبعير وتنقلبون برسول الله إلى رحالكم، أما والذى نفسى بيده، لولا الهجرة لكنتُ امرءاً من الأنصار، الناس دثار (عوام) وأنتم شعار (خواص)، لو سلك الناس شِعباً وسلكت الأنصار شِعباً لسلكتُ شِعب الأنصار».
رضى الأنقياء بنبى الله تعالى وزهدوا فى مغانم الدنيا ومكاسبها، وعادوا بالنبى فى رحالهم، ليقضى بينهم آخر 3 سنوات فى حياته، ويموت ويُدفن فى أرضهم. وقبل أن تصعد روحه الشريفة إلى الرفيق الأعلى كانت آخر كلماته للمهاجرين القرشيين: «أوصيكم بالأنصار فإنهم جيشى وموضع سرّى، وقد قضوا الذى عليهم وبقى الذى لهم». هذه آخر كلمات قالها النبى، لكن المواقف التى أعقبت وفاته تقول إن المهاجرين القرشيين لم يلتفتوا إلى وصيته أو يعملوا بها. فقد رفضوا تقاسم الحكم بينهم وبين الأنصار، أو حتى المشاركة بأن يكون الأمراء من مكة والوزراء من المدينة. تبنَّى القرشيون مبدأ «المغالبة»، وبالفعل غلبوا الأنصار على أمرهم، واستغلوا فى ذلك نقاء سريرتهم، وعمق إيمانهم، بالإضافة إلى اللعب على وتر الخلاف القديم بين رهطَيهم من الأوس والخزرج. فقد ترشح سعد بن عبادة (الخزرجى) للخلافة بعد وفاة النبى، وبايع له الكثيرون، فنفس الأوس على «سعد»، وبادروا إلى إخبار المهاجرين ومبايعة أبى بكر الصدِّيق رضى الله عنه. استأثر المهاجرون بالأمر وهاجر سعد بن عبادة إلى الشام، حيث مات هناك، وأشاع القرشيون أنه قُتل على يد نفر من الجن!.
وقد مكث الحكم فى حجر كبار المهاجرين ردحاً من الوقت حتى وصل إلى عثمان ليطل «طلقاء مكة» -ومن بينهم بنو أمية- برؤوسهم وتشرئب أعناقهم إليه، ويبدأوا فى صياغة الخطط للاستيلاء عليه. اغتيل «عثمان» كما تعلم ثم تولى من بعده على بن أبى طالب، فخرج «معاوية» -رأس بنى أمية حينذاك- ضده، وانحاز إليه كثير من المهاجرين القرشيين. وفى المقابل انحاز الأنصار إلى «على» وأهل بيت النبى كجزء من ولائهم لمحمد صلى الله عليه وسلم. وحارب قيس «ابن سعد بن عبادة» إلى جوار «على»، حتى كان ما كان من اغتيال الخليفة الرابع. وقد حدث ذات يوم أن عرّض معاوية بن أبى سفيان بتشيّع قيس بن سعد، فوقف الأخير أمامه متحدياً، وقال قولته الشهيرة: «والآن ماذا يا معاوية؟. والله إن القلوب التى أبغضناك بها لفى صدورنا، وإن السيوف التى قاتلناك بها لعلى عواتقنا». كان صلباً مثل أبيه، وصاحب مبدأ شأنه شأن الأنصار جميعهم.
انتهى أمر أنصار رسول الله باستئصال شأفتهم على يد يزيد بن معاوية، حين اندلعت ثورتهم الكبرى ضده، والتى يطلق عليها «ثورة الحرة»، فقد أبى عليهم إيمانهم أن يرضوا بأن يكون حاكمهم «يزيد»، بما يعلمون عنه من ضعف إيمان، وتجرؤ غير مسبوق على حرمات الله، وكان أشدها على نفس الأنصار قتل سبط نبيهم الحسين بن على، رضى الله عنهما. أخمد «يزيد» الثورة مستخدماً أقصى درجات العنف، وبعد رضوخ الثائرين، أمر «يزيد» باستباحة مدينة رسول الله 3 أيام متتالية، كثرت فيها المذابح بين الرجال، والسبى بين النساء. يقول «ابن خلدون»: «بعد واقعة الحرة افترق هذا الحى من الأنصار وأقفرت منهم يثرب ودرسوا فيمن درس من الأمم.. ولا حول ولا قوة إلا بالله».