إن كنت من سعداء الحظ فى هذا العالم فستجد أن لديك ذاكرة قوية شاملة جامعة رومانسية وواقعية تدلل الذكريات وتغنى لها وتسجلها داخل ذاكرتك بأسماء توضيحية مفسرة شارحة لكل منها برسومات وألوان زاهية أو قاتمة لا تمحى أبداً مهما مرت السنوات عليها، والطريف أنه لا يمكن لأى إنسان أن يعرف تلك الرموز ومعناها ومغزاها إلا صاحب الذكريات والذى يحتفل بها بصورة دورية ولا يسقط أى واحدة منها لأنها فى الحقيقة هى الإنسان نفسه وأيامه ولياليه وأفراحه وأحزانه ونجاحاته وأيضاً إخفاقاته ولحظات ميلاد أبنائه وأبناء الأعزاء ولقطات إضافة أصدقاء وربما فقدان من تَرَكُوا علامات على أيامه وملامح فى وجهه تميزه وخصالاً ينفرد بها وممتلكات يتباهى بها وربما ترك له أحدهم خزانة حديدية تحتضن أوسمة ونياشين وشهادات تقدير تحمل توقيعات أحد الملوك أو الرؤساء تؤكد أنه من نسل الأبطال الذين قدموا حياتهم أو علمهم وعصارة عقولهم من أجل الوطن وكان جزاؤهم ما ملك هو وأبناؤه وسيظل يورث للأجيال المقبلة التى تحمل لقب العائلة. ولدينا فى اللغة العربية كلمة (ذكرى) وتعنى العبرة والعظة والعيد السنوى ليوم تميز بحدث مهم فى حياتنا ونقوم بإحيائها كل عام (والفعل يذكر الشىء) أى يستحضره ويسترجعه فى ذهنه بعد نسيان، ولدينا أيضاً كلمة (الذاكرة) بما تضمه من ذكريات والتى تبدو كلوحات فنية تتحرك أمام أعيننا دون صوت ويمكن أن نصفها بأنها فيلم سينمائى من أيام السينما الصامتة التى عرفها العالم فى عشرينات القرن الماضى. ومن أمتع ما وهبنا الله القدرة على استرجاع الذكريات السعيدة والحزينة، فَلَو لم تكن لدينا هذه القدرة لما حلمنا بالأفراح التى تعطينا أياماً سعيدة مبهجة أو الكوابيس التى تقلق مضاجعنا فجميعها نستمد ما نراه فيها من خزانة الذكريات.
وبخلاف الشعراء والمبدعين والمطربين والملحنين والنحاتين والرسامين ومن تحرك مشاعرهم وتحولها لأعمال خالدة فى مختلف الفنون تلك الذكريات فإن لها مكانة وتاريخاً لدى الأطباء والعلماء حيث يصفونها بأنها نظام إبداع داخلى يصنف الأحداث وفقاً لاستخدام قصير أو طويل المدى. وفى عام ١٩٥٣ أجرى أحد جراحى المخ والأعصاب عملية لاستئصال جزء من مخ أشهر مريض للأعصاب ويسمى (هنرى مولايزون) والجزء هو (الحصين) وذلك لمعالجته من نوبات مرضية مزمنة وكانت نتيجة هذه العملية الجراحية بمثابة دفعة قوية لجراحة المخ والأعصاب وللباحثين فى علم الذاكرة. حيث تدهورت قدرة المريض على تذكر أى شىء حدث له فى سنته الأخيرة بينما لم تتأثر الأنواع الأخرى من الذكريات البعيدة. وتوالت الأبحاث فى هذا المجال فى الولايات المتحدة الأمريكية لتؤكد أن هذا الجزء (الحصين) هو مخزن الأحداث القريبة فى حياة الإنسان بينما تحتفظ قشرة المخ بالأحداث البعيدة طويلة المدى لتصبح هى المسئولة عن الوظائف العليا كالتخطيط وحل المشاكل وتصبح لدى الإنسان منظومة متكاملة مع المعلومات المتصلة بها وذلك لبناء معرفة مستدامة عن أنفسنا وعن العالم. وما بين العلم والفن والحب نظل نحن نتذكر ونحلم ولا ننسى أى كلمة أسعدتنا ولا نظرات الحب التى التقينا بها منذ طفولتنا وحتى نهاية رحلة الحياة ولا اللمسات الرقيقة المواسية أو المهنئة أو المطمئنة أو المملوءة بالحب والعرفان بالجميل أو تلك التى احتوت كل مشاعر القلوب دفعة واحدة من الأحبة وأصحاب المكانة الغالية المميزة. ولكم أصدقائى أقول احتفظوا داخلكم بذاكرة الحب فهى أغلى ما تملكون وهى الزاد لأيامكم أسعدكم الله بها.