يحلو لبعض الناس أن يعلّقوا طوق أى قضية فى رقبة قط واحد، يتم اختزال كل الشرور فيه، قد يقومون بذلك بغرض الاستسهال، أو خضوعاً لتيار عام يصنعه أصحاب مصلحة فى اختزال جرم معين فى شخص وحيد حتى ينأوا بأنفسهم عن مواضع الشبهات. ظهرت العديد من الأمثلة على هذه الآلية فى التفكير خلال السنوات الأولى للاحتلال الإنجليزى لمصر (1882)، فقد بادر البعض إلى تعليق طوق الاحتلال فى رقبة أحمد عرابى، واتهم بأنه السبب فى الاحتلال الانجليزى لمصر، وهو اتهام يقفز على العديد من العوامل الموضوعية التى تفسر هذا الحدث. الأمر نفسه تكرر فى الواقعة التى حدثتك عنها بالأمس، واقعة «دنشواى»، التى راح ضحيتها 4 من مواطنى القرية البائسة، تم نحرهم على أعواد المشانق، ناهيك عن جلد آخرين أمام أهليهم وذويهم، وعلى أبواب دورهم إمعاناً فى إذلالهم. بادر العديد من الساسة المعاصرين للواقعة إلى تعليق هذه المأساة فى رقبة المحامى «إبراهيم الهلباوى»، ممثل الادعاء فى المحكمة، الذى طالب بإعدام 10 من المتهمين فى وقت قضت فيه المحكمة المشكلة من مصريين وإنجليز بإعدام 4 فقط.
أصبح لقب «جلاد دنشواى»، الذى نحته الشاعر حافظ إبراهيم فى وصف «الهلباوى» هو الأكثر التصاقاً بشخصه. وهكذا يفضل دائماً أصحاب منهج الاختزال ابتكار عبارات خلّابة وقادرة على الرسوخ فى ذاكرة المستمع، حين يقررون اختزال قضية فى شخص. لم يقف «الهلباوى» صامتاً أمام ما يحدث، فقد كان الرجل يشعر فعلياً بالذنب والمسئولية الأدبية عن ذبح مواطنى دنشواى، لكنه كان ينكر على من حوله تعليق الطوق فى رقبته وحده، ويردد باستمرار أن له شركاء فى ذلك، من بينهم سعد زغلول وأخوه الأصغر أحمد فتحى زغلول، ومصطفى باشا فهمى، والد زوجة سعد زغلول «صفية هانم»، الذى كان يشغل منصب رئيس الوزراء أيام الواقعة، بالإضافة إلى بطرس باشا غالى (رئيس وزراء مصر فيما بعد).
يذهب «الهلباوى» فى مذكراته، وهو يحكى تفاصيل محاكمة دنشواى إلى أن مجموعة الأسماء السابقة لعبت دوراً فى تعليق مأساة دنشواى فى رقبته، رغم أن كلهم شارك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة فيها، ويقرر أنهم قبضوا ثمن هذه المشاركة، فى حين لم يخرج هو إلا بالعار، ولم يحصد أى مكسب مادى كما حصدوا. يقول «الهلباوى»: «ولا يفوتنى أن أذكر أن سعد باشا زغلول قد رقّى من محكمة الاستئناف إلى صف الوزارة (أصبح وزيراً للمعارف)، وأن فتحى باشا زغلول قد رقّى من رياسة محكمة مصر إلى وكالة وزارة الحقانية مباشرة»، ونضيف إلى ذلك أن بطرس باشا غالى -رئيس محكمة دنشواى- أصبح رئيساً للوزراء عام 1908، ويختم «الهلباوى» كلامه قائلاً: «أما الهلباوى فقد بقى قائماً على قدميه يعمل فى مكتبه بعد قضية دنشواى، كما كان يعمل فيه قبل هذه القضية».
تلك واحدة من آفات النخب فى مصر، فجلّها يبحث عن المكاسب، ولا يتلكأ فى استخدام مآسى البسطاء -رغم ضلوعه فيها- كتجارة رابحة رابية تمكّنه من تحقيق أهدافه، وتجده فى مقابل ذلك لا يخجل من أن يقدم نفسه فى صورة «الرجل المثالى»، بل ويجد أقلاماً تكتب، وأسنة تشدو بمثاليته المفرطة.