قبل نحو 10 أيام، وتحديداً مساء يوم الأربعاء 31 أكتوبر، ترجل الفارس عن حصانه فى «استراحة محارب» ستطول حتى يشاء الله السميع العليم.. غير أنه قبل هذا الموعد اختار أن يُخفت «أضواء الاستوديو» ليختفى عن الأنظار رويداً رويداً، تاركاً الساحة التى كان أحد فرسانها، ربما احتجاجاً، وربما رافعاً الراية البيضاء استسلاماً للمرض اللعين «الفشل الكلوى»، بعد أن قاومه طوال العامين الأخيرين اللذين ظل خلالهما أسيراً على سرير المرض 6 ساعات كاملة 3 مرات أسبوعياً فى جلسات الغسيل الكلوى التى كان يخضع لها فى أحد المستشفيات القريبة من موقع سكنه.
رحل رجل الكلمة الصادقة، التى كان يجسدها بصوته المميز، ويجعل كل من يستمع إليها كأنه يراها تتحرك أمامه وتتنازل طواعية عن جمودها الذى سجنها فى حروف مطبوعة اختارت طريقها -سواء من اليمين إلى اليسار أو العكس- على صفحات الصحف اليومية أو المجلات الأسبوعية..!
فور أن أغمض الراحل حمدى قنديل عينيه للأبد، تسابق الكثيرون وهم يشرعون أقلامهم لـ«نعيه»، تكريماً لتاريخه الممتد منذ ستينات القرن الماضى لحظة استضافته فى منازل الملايين عبر ذلك الصندوق السحرى الذى كان يطل منه عليهم، مجاوراً زميله صلاح زكى -الذى سبقه إلى الرحيل بهدوء تام قبل سنوات طوال- من خلال البرنامج الشهير «أقوال الصحف» الذى كان ينتظره الملايين وقتها ليدركوا تفاصيل ما يدور حولهم، سواء فى مجتمعهم المحلى أو الإقليمى أو الدولى.. ولم لا، فقد كان للراحل نصيب وافر من اسمه «قنديل»..!
لم ينفرد قنديل بتسارع الأقلام لتكريمه بعد رحيله، فهى «عادة» لم نسقطها يوماً من ثقافتنا المتوارثة منذ عقود طويلة من الزمن، إذ اعتدنا هذا الأمر بمجرد رحيل أى من رموزنا، دون أن نفكر لحظة فى تكريمه وهو لا يزال حياً بيننا، كما لو كنا نخشى لومة لائم إذا ما أقدمنا على ذلك الأمر.. وبالتالى فلم يذكره أحد طوال حياته منذ أن توارى عن أعيننا قبل سنوات!
فى آخر برامجه الناجحة «قلم رصاص» اختار الراحل كلمات الشاعر الراحل أحمد مطر «جسَّ الطبيبُ خافقى وقالَ لى هلْ ها هُنا الألَمْ؟ قُلتُ له نعَمْ، فَشقَّ بالمِشرَطِ جيبَ معطَفى وأخرَجَ القَلَمْ»، مقدمة يبدأ بها برنامجه، ليصف تلك العلاقة التى جمعته بمهنة الصحافة، سواء المسموعة أو المرئية، وهى العلاقة التى أجبرته على أن يهجر «سماعة الطبيب» ليمسك بـ«القلم» يشخص به حال الوطن، فقد كان هذا الإعلامى المبدع رائداً لبرامج «التوك شو» الجادة التى تحول معظمها الآن إلى ما يشبه «سوق الجمعة» فى أى منطقة عشوائية، لا يسود فيها سوى الصراخ والاشتباك الذى يتحول إلى «الأيدى» فى كثير من الأحيان..!
ومثلما أن «لكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة»، فقد كان اصطفاف حمدى قنديل ضمن اجتماع «فيرمونت الشهير» هو «الكبوة» التى أصابته ودفعت به إلى «عاصرى الليمون»، إذ جاء هذا الاجتماع مساء الخميس 21 يونيو 2012، لاحقاً على انتهاء مرحلة التصويت فى الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية بين «سفير جماعة الشياطين» محمد مرسى، والفريق أحمد شفيق «آخر رؤساء مجلس وزراء المخلوع»، وهو الاجتماع الذى جرى وصفه وقتها بـ«صفقة مع الشيطان»، وهى الصفقة التى كان يبحث البعض عن مكسب له فيها، غير أنه وللحق -وليس دفاعاً عن قنديل- أنه ربما كان قلقه من حدوث ردة على ما تحقق فى يناير 2011 -مهما كان الرأى فى حقيقتها- من جانب رموز المخلوع هو الذى دفعه للمشاركة فى هذا الاجتماع، وليس أبداً البحث عن دور أو مكسب كغيره..!
منذ أن كان طالباً فى الثانوية العامة بدأ رحلته مع القلم، وهى الرحلة التى أجبرته على ترك كلية الطب بعد أن انتظم فيها ثلاث سنوات كاملة، لتندهه «نداهة الصحافة» ليحترفها بعد تخرجه فى «قسمها» الذى تضمه كلية الآداب بجامعة القاهرة ليبدأ رحلته المهنية التى تقلّب خلالها فى عدد من الصحف والمجلات «مجلة آخر ساعة، ثم جريدة أخبار اليوم»، لينتهى به المطاف أمام كاميرات التليفزيون فى برامجه «أقوال الصحف، رئيس التحرير، قلم رصاص»، وهى البرامج التى استحوذت على اهتمام المواطنين واكتسبت شهرة واسعة وأيضاً خصومات عدة مع الأنظمة فى مختلف أنحاء الوطن العربى، وأجبرته على أن يطفئ أضواء برامجه مرات عديدة فى حياته التى امتدت 82 عاماً، قضى منها نحو 60 عاماً كاملة مع «حروف الصحافة والطباعة» التى تنقلت به من التليفزيون العربى وقتها، ثم إلى دبى، ليعود إلى القاهرة مرة أخرى بعد أن برئ من «مرض الصحافة» ليشتغل بالسياسة.. وهكذا كانت رحلة الفارس فى عالم الصحافة.. وإن كان رحل عنا بجسده، إلا أنه سيظل باقياً وسط عالمنا بذكراه وبتلاميذه العديدين فى مختلف مجالات الإعلام. رحم الله فارس الكلمة المقروءة والمنطوقة والمسموعة.. ولك السلامة دائماً ولمواطنيك يا أغلى اسم فى الوجود.
يبدو أنه أصبح من الضرورى على وزارة الداخلية مراجعة ترتيب أولويات مفهوم الأمن لدى بعض رجالها وضباطها، إذ إنه من غير المعقول أن يجد طفل لم يتعد عمره 6 سنوات نفسه مهدداً بالسجن 6 أشهر بسبب «مقاومته للسلطات الأمنية»..! وأكرر «مقاومته للسلطات الأمنية»..! كما لو كان أهله يُرضعونه «نابالم»، ويلفونه وهو رضيع بـ«بامبرز ناسف»..!
بداية القصة كانت -وفق ما نشرته صحيفة «الوطن»- عندما اتهم ضابط مباحث القوصية 29 شخصاً بمقاومة السلطات الأمنية، ومن بينهم الطفل محمد أبوالحسن صبرى بخيت، ويبلغ من العمر 6 سنوات.
ولأن أحداً من رجال المباحث لم يكلف نفسه إجراء تحريات للتأكد من هوية المتهمين، فلم يُعرض الطفل على قسم شرطة أو نيابة، ليثبت أنه طفل وليس إرهابياً، ليقدم فى النهاية للمحاكمة ضمن الـ29 متهماً، ويصدر الحكم عليه فى الأسبوع الماضى بوصفه «هارباً»، إذ إن القاضى أصدر حكمه وفق الأوراق والمستندات التى أمامه، وليس بينها بالطبع أى أوراق ثبوتية.
خالص التهنئة لضابط المباحث ورجال القسم الذين نجحوا فى تقديم «المتهم» للمحاكمة ليلقى عقوبته جزاء له على «مقاومته للسلطات الأمنية»..!