فى الأثر: «من لا يتعلم من تجارب ماضيه فلا مستقبل له». وفى السنوات الثلاث الماضية تعلم الشعب المصرى الكثير، عرف قدر نفسه، كما عرف قدر نخبته، وأصبحت لديه مسطرة يقيس بها الغث من الطيب، والصالح من الطالح. ولا يهم هنا كم عدد الساعات التى يقضيها هذا النجم أو ذاك فى استوديوهات التلفاز، أو مساحات الأخبار التى تنشر عن هذا الفتى أو ذاك الناشط، أو عدد المظاهرات البائسة التى ينظمها هذا التيار أو تلك القوة الثورية، أو التربيطات التى يبرع فى بنائها هذا السياسى أو ذاك الإعلامى، وإنما الذى يهم الشعب هو من الذى يستطيع أن يقود بحق، ويضحى من أجل الوطن بحق، ويقدم فكرة جادة من أجل المستقبل. باختصار أصبحت مسطرة الشعب هى الإنجاز والثقة والقدرة.
بعض النخبة، سواء من القدامى أو الجدد، يعيشون منفصلين عن الواقع حولهم، أخطاؤهم الكثيرة وحساباتهم المتعثرة ورهاناتهم الخاسرة تجعلهم فى وادٍ، بينما الشعب واحتياجاته الرئيسية فى وادٍ آخر. الكثير من نخبة هذه الأيام وناشطيها باتوا لا يدركون حقيقة المشاعر الشعبية نحوهم، والبعض منهم يتجاهل تلك المشاعر، رغم وضوحها، ويتصرف باعتبار الشعب غير موجود أصلا، أو أنه مغيب عن الوعى، ومن هنا يحدث السقوط مصحوبا بثمن كبير.
هذا التحليل بإجماله لا ينطبق فقط على جماعة الإخوان المحظورة، بل ينطبق أيضاً على مكونات عديدة من نخبة ما بعد يناير 2011 سواء كانت ثورية أو يسارية أو ذات نكهة إسلامية. والفارق أن جماعة الإخوان لم تعد تراهن على الشعب لكى تكسبه فى صفها مرة أخرى، بل قررت مواجهة الشعب والوطن بأكمله بالترويع والقتل والخرطوش والتخريب والذبح وقلة الأدب وانعدام الأخلاق وفقدان الوطنية والتآمر مع الخارج وخيانة الأمانة وبيع الوطن فى سوق الخيانة. أما الشق الأكبر من نخبة ما بعد يناير فتتصور أن الشعب فى «جيبها» وأنه ما زال يثق فيها ثقة عمياء، وأنه رهن إشارتها وطوع بنانها، وذلك رغم أن كل الأحداث تقول عكس ذلك تماما.
كلا الموقفين دليل صارخ على الحسابات الخاطئة والرهانات الخاسرة. وفى الإحصاء، كما فى الاجتماع، المقدمات الخاطئة والافتراضات غير العلمية تقود حتما إلى نتائج كارثية. وفى الحياة فإن خطأ النخبة الفادح يلقى بظلاله على الشعب والمجتمع والمؤسسات، ونحمد الله تعالى أن يَسّر لنا نخبة أخرى خرجت من رحم الأحداث أكثر حكمة ووعيا وحباها القدر قدرا كبيرا من ثقة الشعب ومحبته، وهى الرهان الصحيح للحاضر والمستقبل.
التقديرات الخاطئة والأوهام الخيالية والفشل المحتوم لدى جماعة محظورة شىء طبيعى يتسق مع المنطق والعقل السليم. ولا يشكل الأمر دهشة أو مفارقة تاريخية. المشكلة الأكبر هى فى هؤلاء الذين عوّل الشعب عليهم آمالا كبرى فى لحظة تاريخية فارقة، ولكنهم فشلوا فى الامتحان، ورغم كل المؤشرات حولهم، التى تؤكد هذا الفشل وتدعوهم لمراجعة الذات، فإنهم مصرون على المزيد من الفشل والمزيد من المغامرات غير المحسوبة. الأمثلة هنا عديدة نكتفى باثنين.
لا شك أن حق الترشح للرئاسة بات حقا دستوريا أصيلا دون قيود، أما من حيث الفعل فالمسألة تخضع لحسابات عديدة، أولها الشعبية والقدرة على جذب التأييد وثقة الناس ومزاجهم العام والتجربة السابقة والقراءة الدقيقة للخريطة السياسية والحزبية، ومصادر التمويل. ولا غبار أن يرشح أحد نفسه متصورا أنه البديل الوحيد أمام الشعب. لكن قدرا من التواضع مطلوب خاصة حين يكون هناك تيار جارف فى المجتمع والدولة بأسرها ناحية اختيار بعينه يرى فيه القدرة الموثوقة والتجربة المحققة. أقول ذلك وعينى على رغبة أ. حمدين صباحى فى أن يكون مرشح الأحزاب المدنية وأحزاب الإنقاذ وقوى الثورة والتيار الشعبى الذى يتزعمه، فى الوقت الذى لا تتفق فيه كل هذه المكونات على هذا الترشح ولا تدعمه، بل تجاهر بعكسه وتعلن تأييدها للفريق السيسى باعتباره الاختيار الأنسب تاريخيا لمصر. الأمر على هذا النحو يؤكد أن تقديرات المجاهرة بالترشح ليست محسوبة جيدا، ومآلها الفشل.
نموذج آخر: حركة 6 أبريل التى تجمع حولها الكثير من الشباب ولعبت دورا فى الحشد الشعبى ضد نظام مبارك حتى سقوطه، وعلا نجمها كثيرا طوال السنوات الثلاث الماضية، تواجه اليوم اختبارا قويا، فالشعبية التى كانت طاغية لم تعد كذلك اليوم، وثقة الناس العادية فى رموز الحركة وتحركاتها لم تعد موجودة كما كان، وأخطاء الحركة عن قصد أو عن قلة خبرة سياسية أو بسبب الاندفاع أو التحريض من قوى أخرى فى الداخل أو فى الخارج، باتت مكشوفة للجميع. وبدلا من التأمل فى أسباب انحسار التأييد الشعبى، فإن سلوك حركة 6 أبريل الفعلى فى العام الماضى يقدم نموذجا فى التخبط والتأرجح وفقدان الزخم. خذ مثلا ما اقترفته الحركة ورموزها الكبار كأحمد ماهر ومحمد عادل من خطأ بالغ حين تصورت أنها قادرة على هزيمة قانون التظاهر ومؤسسات إنفاذه عبر الحشد الجماهيرى الذى لم يعد موجودا أصلا، والتأثير على سير التحقيقات ومواجهة قوات الأمن وإلقاء الحجارة عليها. وهو ما ثبت يقنا جازما حسب تعبيرات المحكمة التى قضت بحبس ماهر وعادل ثلاث سنوات وغرامة 50 ألف جنيه.
والأكثر سوءا أن يخرج علينا من يتحدث باسم الحركة يهدد باللجوء إلى الجهات الخارجية لإجبار الحكومة على الإفراج عن الذين ثبت بحقهما الجرم ووقع عليهما العقاب الوارد نصا فى القانون، والمسيئ أيضاً أن يتصور البعض فاقد الصلة بجموع الشعب أنه قادر على إثارة ثورة جديدة، وكأن الثورات باتت سلعة تباع وتشترى فى الأسواق، أو أنه قادر على وقف الاستفتاء على الدستور أو تعطيله أو عدم تمريره عبر بيان ملتهب يفيض إثارة فى لحظة يريد فيها الناس من يحدثهم بالعقل لأغراض تخص الوطن فقط لا غير. ولا أدرى تحديدا على من يراهن هؤلاء، ولكنى على يقين أن الكثير منهم تأخذهم العزة بالإثم وما زالت تحركهم أوهام الاستعانة بصديق من الخارج أفلح فى ظروف سابقة فى الضغط وتقديم التمويل دون حساب، ولا شك أن ما تعيشه مصر الآن ووعى الشعب والمؤسسات أكبر من أن تؤثر عليه مثل تلك المهاترات.