فوق إحدى ربوات «قلعة الجبل»، وقف السلطان الناصر صلاح الدين، وإلى جواره أخوه ووريث عرشه «أبوبكر بن أيوب» الملقب بـ«العادل». أخذ صلاح الدين يتأمل البناء الذى لم يزل يعلو بأيدى العمال، فأوشك أن يناطح السحاب المتسكع فى السماء، أخذه المشهد فغاص فيه للحظات، ثم تنفس بعمق وقال لأخيه:
- صلاح الدين: أسعدك الله وأسعد أولادك بهذا البناء الشامخ.
- العادل: يا أخى.. منّ الله عليك وعلى أولادك وأولاد أولادك بالدنيا.
- صلاح الدين: لم تفهم ما أقصد!.. أنا نجيب (ذكى) ما يأتى لى أولاد نجباء.. وأنت غير نجيب، فأولادك يكونون نجباء.
أراد صلاح الدين الأيوبى أن يبنى قلعة الجبل لتكون داراً لحكمه، وحكم من يليه من المماليك الأيوبية. دقّق فى اختيار المكان، بناء على مجموعة من المقاييس الأمنية والمناخية، وكلف وزيره بهاء الدين قراقوش ليُتمّم المهمة. واجه «قراقوش» أزمة فى توفير الحجارة اللازمة لبناء القلعة والسور الكبير المحيط بها، ولم يجد أمامه -كما يحكى المقريزى فى خططه- سوى أن يستعين بالحجارة المتوافرة فى الأهرامات العديدة التى اتخذها الفراعنة مقابر لهم بمنطقة الجيزة، هدم «قراقوش» هذه الأهرامات، ونقل حجارتها، ليستخدمها فى بناء القلعة وسورها العظيم. لم يكتمل بناء قلعة الجبل فى حياة الناصر صلاح الدين، فقد مات قبل أن ينتهى «قراقوش» من مهمته، ولم يكتمل إلا فى عهد الملك الكامل، ابن الملك العادل أبى بكر بن أيوب.
ثمن كبير تكلفه بناء قلعة الجبل، فتوفير الحجارة اللازمة للنهوض ببنيانها، اقتضى تدمير آثار الأجداد، بالإضافة إلى هدم الكثير من المساجد والمقابر التاريخية، حتى يتم إفساح المساحة للقلعة، لتتمدد فوق وجه المكان. وقاسى المصريون الأمرين فى بنائها، حيث كان يسوقهم بهاء الدين قراقوش إلى العمل بأبخس ثمن، وأحياناً بالسُّخرة، ولست بحاجة إلى أن أذكرك بعبارة «حكم قراقوش»، التى لم تزل تجرى على ألسنة المصريين فى المواقف التى يصفون فيها قهر الغير لهم، أو استبدادهم بالأمر من دونهم. شرع صلاح الدين فى بناء القلعة ولم يسكنها، لأن العمل فيها لم يكتمل إلا بعد سنوات من وفاته. وعلم وهو على قيد الحياة أن هذا القصر المشيّد لن يكون داراً لأولاده أو أحفاده، لأنه كان يؤمن بنظرية تستحق التأمل، نظرية أن ظهر الذكى لا ينفض إلا الأغبياء، أما الغبى والأقل نجابة فيأتى من ظهره الأذكياء، لذلك فقد حرص على تهنئة أخيه «العادل» بالقلعة، وتمنى له السعادة هو وأولاده فيها، وعندما استغرب أخوه الكلام، ودعا له ولأبنائه وأحفاده بالتنعّم بها، أفهمه صلاح الدين ما يرمى إليه، فذكر له أن القاعدة تقول إن الإنسان يبنى ويتطاول فى البنيان من أجل غيره، وأن الذكى يجتهد ويحقّق، لكن مسيرة النجاح تنتهى من بعده، لأن أولاده عادة ما يكونون أغبياء، وأعجز عن استكمال مسيرته، فى وقت يجد فيه غير النجيب أملاً فى أن يخرج من صلبه أذكياء يرثون ما بناه من لم يخرجوا من صلبه. هناك استثناءات ولا شك من هذه القاعدة أو النظرية، فقد يخرج من ظهر العالم عالم مثله، ومن ظهر الخائب من هو أشد خيبة، ومع التسليم بهذه الاستثناءات، انطلاقاً من حقيقة أن «لكل قاعدة استثناء»، فإن ذلك لا يعنى رفض القاعدة، بل قبولها، لأن الاستثناء يؤكد القاعدة.