سرورنا بالانتفاع بالوقت وتحسرنا على الوقت الضائع الخامل، هو يقظة معناها أننا أعطينا للوقت قيمة فى حياتنا، وجعلناه جزءاً من رصيد القيم التى بها نصدر أحكامنا على الحياة.. تلك الأحكام التى تجعلها فى عيوننا جديرة أو لائقة أو ناجحة أو سعيدة، أو تجعلها عكس ذلك، أو تجعلها لا هذا ولا ذاك.. تافهة خالية من المعنى والأهمية!
ذلك كله لا يتجاوز عالم العاطفة والفكر الإنسانى إلى الكون أو العالم الخارجى.. فعقلنا لا يعرف الوقت بالنسبة للكون إلا باعتباره مجرد ظرف محايد خامل دائماً تجرى وتقع فيه الأحداث.. به يستعين العقل على تحديد الأحداث والتعرف على ما يتعرف عليه من العلاقات بين بعضها وبعض أو بينها وبين الإنسان.
الوقت الضائع
ولو تأملنا ما نسميه بالوقت الضائع أو الخامل فى حياة كل آدمى، لوجدنا أن معظم حياته وقت ضائع خامل، وأن أعمارنا إذا استبعدنا الوقت الضائع منها، فإنها لن تتجاوز الأيام أو الأسابيع.. ولأننا لكى نعيش ساعات غير خاملة معقولة جديرة أو لائقة أو ناجحة أو سعيدة نحتاج إلى سنين عديدة من عمر مديد.
ربما ساعد على تفشى أو اعتياد الحساب الفلكى المحض لتقدير الأعمار، اعتياد قياسه من قديم بحركات وأوضاع الشمس بالنسبة للأرض، ثم بالمزولة، ثم بالساعة التى نقع جميعاً فى أسر حسابها للوقت. يعرف الآدمى أنه يستطيع إيقاف أى شىء إلاّ حساب الوقت الذى ارتبط فى ذهنه من قديم بالفلك وحركة نجومه وكواكبه، فالتصق فى ذهنه قياس العمر بهذا المقياس الفلكى المحض: اليوم والأسبوع والشهر والعام.. ولم يعد مشغولاً فى حسابه بماذا يجرى أو ماذا فعل أو ماذا أنجز فى هذه المواقيت التى تجرى فى مقاديرها لتشكل فى النهاية عمره المادى دون التفات إلى عمره الفعلى تبعاً للوقت الذى صاحبه العمل والإنجاز! ومع شيوع الحساب الفلكى للعمر، يتضاءل إحساس الآدمى بقيمة الوقت، وأنه حين يرخص يضمر العمل ويتراجع الإنتاج.. ويزداد من ثم المبدد أو الهالك منه!
آفة الاعتياد
ومنذ الأزل تعود الآدميون على وجود ذلك الوقت الضائع فى حياتهم بتلك النسبة الرهيبة.. سبب ذلك أنهم حسبوا حساب أعمارهم فقط على أساس مرور الأيام والليالى الفلكية عليهم.. ذلك المرور الخامل الصامت المحايد الذى لا يتوقف أبداً.. فمعظم عمر الآدمى خامل فارغ خالٍ من الأهمية، وهذه ظاهرة عامة. أما لماذا يتمسك الآدمى بالحياة ويحرص على إطالة عمره ما أمكنه، فلأن الشعور بالحياة وباستمرارها وضرورة استمرارها ظاهرة ضرورية حيوية يشترك فيها سائر الأحياء، وليست ظاهرة فكرية اجتماعية بشرية تتوقف على القيم والمثل وحسابها والتفرقة بين ما يصفه البشر بالوقت الضائع وما يصفونه بالوقت المفيد أو المسعد.
بين أوقات العبث ووفرة الزمن الباقى
ومن اللافت أن الآدمى فى مراحل تكوينه، أو فى أوقات عبثه، لا يلتفت إلى الوقت ولا يعنيه.. مع أنه يلمس جريانه مـن تحولات الشمس نهاراً، وفى إشراقتها صباحاً وغروبها قبل إطباق الليل، ويدرك ذلك بإجمال من حركات وأوضاع وأحجام القمر والنجوم والكواكب والأفلاك.. ولكنه لا يحسب قط أن المنصرم منه وقت زال وانقضى من عمره ولا محل لاستعادته أو استرداده، ومـع ذلك يظل مطمئناً إلى «وفرة» الزمن الباقى عن الاهتمام بقيمة اللحظة أو اللحظات الحاضرة، معتقداً أن الباقى من العمر يغنيه عن تسرب الوقت الحاضر!
يزداد هذا الاطمئنان إلى «وفرة» الزمن الباقى، فى سنوات الصبا والشباب، ويتضاءل شيئاً فشيئاً مع تقدم العمر بما يلازمه من إحساس بتناقص الرصيد الباقى ليصير عزيزاً غالياً حين يغيض وتقترب لحظة الرحيل!، إلاَّ أن ذلك لا يلفت الآدمى إلاَّ إلى الإحساس الفلكى بحساب الأيام والشهور والأعوام، ولا يسترعى تفطن الغالبية الغالبة إلى حساب العمر النسبى تبعاً للوقت المفيد النافع!
لو أدرك الآدمى أن الوقت الضائع أو الفاقد مخصوم من عمره الفعلى، لأعطى للوقت قيمته الواجبة، وعنى بأن يشغله بما يفيد ويجدى وينفع.. ولعرف أن عمره الحقيقى أو الفعلى يتضاعف بمساحة الوقت المفيد فيه، حتى ليقال فى رثاء العظيم إنه استغرق بحياته حيوات رجال، لأن قيمة الوقت المفيد المستقطر منه يزيد على الأعمار الفلكية للكثرة الكثيرة من الرجال!
الوقت المفيد المسعد
وحين يمر أحدنا بوقت مفيد أو مسعد يمر بيقظة غير عادية.. فيها تكون حواسه حادة جداً وتنبهه شديداً.. ويبدو له خمول الآخرين ورضاهم بخمولهم شيئاً عجيباً مستغرباً ينقص احترامه لما اعتادوه وتعارفوا عليه.. خاصة نظرتهم الفلكية إلى الوقت، وإلى العاجل والآجل من الأمور، وإلى ما يعتبر خطيراً أو غير خطير، قريباً أو غير قريب من النتائج والآثار.
فى ذلك الوقت المفيد أو المسعد يغمر الآدمى الحماس والأمل، ويمتلئ ثقة فى إمكان إخضاع الظروف لمشيئته وإقناع الآخرين بما يريد.. وتفيض الحيوية ويسرع نبض الحياة، فيدنو البعيد وتصغر الصعاب والعقبات، ويفقد الكون رتابته وخموله الأزليين الأبديين، وتكثر الوعود والتوقعات المتعلقة بالتغيير والخلاص والإسعاد والسعادة. وذلك لأن الوقت المفيد أو المسعد يبسط رقعة الحاضر ويجعل الآن ممتداً بحيويته وآنيته واندفاعه ومباشرته وفوريته وضيقه بالتأجيل والتعطيل والإرجاء والانتظار.
ونصيب الآدمى العادى من الوقت المفيد أو المسعد، لحظات متفرقة موزعة على سنوات.. فجُل وقته خامل ضائع.. فيه تقع أفراحه وأحزانه ومساعيه فى أيامه ولياليه متسمة دائماً بسمة ذلك الخمول الروحى عليها، ودائماً ما تكون سمة ذاك الضياع ممتزجة بشعور غامض مستمر بالعبث وانعدام الحقيقة!
محاذير تراجع الوقت فى جدول القيم
وتراجع الوقت فى جدول القيم، هو الذى يؤدى إلى عدم الالتفات إلى أن العمر الحقيقى أو الفعلى هـو «حاصل جمع» الأوقات المفيدة أو النافعة أو المسعدة.. وهذا التراجع له آثار متعدية تمس معنى الجد والجدية، وتسلس بالوعى وباللا وعى إلى تفشى ظواهر التواكل وانبهام المعايير والاعتصام بلطف المقادير، وإلى اختلال بوصلة التقييم التى تكفل تمييز السمين من الغث، وتعنى بالجوهر لا بالمظهر، وبالعمل وناتجه لا بالشخص ودعاواه. حين تستوى بوصلة التقييم، لا يتساوى الخامل بالنشط، ولا القاعد بالعامل، ولا البليد المتراخى بالمجتهد، ولا اللاعب اللاهى بالجاد المجد!.. تراجع قيمة الوقت يؤدى إلى تآكل وضياع الجدية والاجتهاد، ويبيت الانسلات والهروب من التعب والجد مرضاً مزمناً لا دواء له!!.. ظنى أن أعقد مشكلاتنا على المستوى الفردى والمجتمعى ترجع إلى فقدان بوصلة وقياس قيمة الوقت.. إلى هذا الضياع يعزى معظم ما نعانيه فى العمل والإدارة والإنتاج!
والوقت المفيد أو المسعد لا يتسع ويتوافر ويملأ حياة الإنسان إلا مع الحب الحقيقى.. لأن الحب الحقيقى بالنسبة للجنس كله هو كل وقته وكله حقيقة وكله مفيد ومسعد.. وهذا شىء لا يتهيأ إلاَّ نادراً لعموم أو غالبية البشر. نجده فى الأنبياء والقديسين والصفوة الخالصة المخلصة مـن أهل العلم والفن.. أولئك بشر غير مهيئين للعالم العادى خامل الروح خامل الحواس خامل الإدراك والشعور الذى نحيا فيه ونتوارثه ولا نستغنى عنه، وإنما هم صفوة لا يمكن أن تحاكيها القرود وأشباه القرود.. هم نماذج نادرة متميزة فذة.. لا للمحاكاة والتقليد، ولكن للتنبيه والتحريك والإيقاظ والتحذير.. توقظ وتنبه وتحذر من الاسترسال إلى غير حد فى الاعتياد على الرضا بالوقت الضائع الخامل الروح والاكتفاء به!!.. وتبصر وتفطن المحيط بقيمة الوقت وجدواه فى حياة الفرد والمجموع وصناعة الحياة!